المبحث الأول :مفهوم الدعوى العمومية
لما توصل بنو البشر أن العيش مع الآخر في مجتمع واحد هي ضرورة حتمية لا محيد عنها, وأن ضمان حقهم في الحياة والحرية والاستقرار, لا يمكن أن يبقى رهين الانتقام والثأر والنعرة القبلية, كان لابد أن يفكروا في طريقة مثلى في تفويض الحق في إنزال العقاب, لجهة معينة تبسط سلطانها على الجميع, في إطار المساوات والعدل, فظهرت عبر العصور بعض المؤسسات التي كانت تهتم بتمثيل المجتمع والنيابة عنه في مكافحة الجريمة وإنزال العقاب, لتتطور في الأخير ويصطلح عليها بكلمة النيابة العامة,لذا نجد اختلافا كبيرا بين فقهاء القانون حول تاريخ نشأتها, بين من يرجعها إلى العهد الروماني في إطار نظام الرقباء أو ضباط البوليس الإمبراطوري, وبين من يرجعها إلى العهد الفرعوني في إطار ما كان يسمى بلسان الملك ,وبين من ربط نشأتها بظهور الدولة الإسلامية في إطار نظام الحسبة وقاضي المظالم, انطلاقا من قول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا", بمعنى أن الجريمة في حق شخص واحد من أفراد المجتمع, هي جريمة في حق المجتمع بأكمله.
لكن النشأة الحقيقية للنيابة العامة بمفهومها الحديث ترجع إلى القرن الرابع عشر وبالضبط لتاريخ 23 مارس 1303, حيث تم النص على كلمة النيابة العامة في أول مرة في أمر {فليب لوبن } بفرنسا, فكانت بالتالي هذه الدولة هي مهد مؤسسة النيابة العامة وحقل نموها, وإن كانت جاءت في هذا القانون لتدافع عن مصالح الملك, إلا أن أعضاء الثورة رأوا فيها حلا مناسبا للدفاع عن مصالح الشعب وتمثيل المجتمع, إن هم عدلوا اختصاصاتها ومهامها, فأصبحت هذه المؤسسة تمارس اختصاصاتها عن طريق الدعوى العمومية, التي تباشر بواسطتها باسم المجتمع, لإنزال العقاب بالجاني الذي ارتكب جرما ألحق ضررا بالمجتمع المدني ككل, وهذا لا يعني أن عقابها يكون مسبقا أو أن فيه إجحافا لحقوق الجاني, بل لابد من محاكمة عادلة تقطعها الدعوى العمومية على مراحل لتصل إلى زجر الفاعل أخيرا بتنفيذ العقوبة في حقه, لأن هناك إشكالا حول دور النيابة العامة، وربما منظومة العدالة الجنائيةككل، يكمن في هذا التوفيق الصعب بين تحقيق أمن المجتمع, بما يعنيه ذلك من ملاحقةجنائية فعالة بشأن كل جريمة، وبين مقتضيات حماية الحرية الفردية وحقوق الإنسان, بمايفرضه ذلك من وجود مجموعة من القيود على سلطة النيابة العامة وضمانات تكفل احترام حقوق الإنسان, وهكذا نص قانون المسطرة الجنائية المغربي على ما يلي:
المادة 2:يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات والحق في إقامة دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي تسببت فيه الجريمة.
المادة 3: تمارس الدعوى العمومية ضد الفاعل الأصلي للجريمة و المساهمين والمشاركين في ارتكابها.
يقيم الدعوى العمومية ويمارسها قضاة النيابة العامة، كما يمكن أن يقيمها الموظفون المكلفون بذلك قانوناً.
يمكن أن يقيمها الطرف المتضرر طبقا للشروط المحددة في هذا القانون.إذا أقيمت الدعوى العمومية في حق قاض أو موظف عمومي أو عون أو مأمور للسلطة أو القوة العمومية، فتبلغ إقامتها إلى الوكيل القضائي للمملكة.
وإذا كانت الدعوى العمومية بمفهومها الضيق, هي رفع المجتمع بواسطة النيابة العامة لمظلمته أو ادعائه أمام قضاء متخصص, للنظر في مدى تورط مشتكا به في التهم الموجهة ضده, لمعاقبته من أجلها, فإن الدعوى العمومية في حقيقة الأمر تبدأ من الوقت الذي يتم فيه الكشف عن جرم معين, بواسطة شكاية أو وشاية أو حالة تلبس, فيشيع الأمر ويصل خبره للسلطات المعنية, حيث تدخل فيها جميع الإجراءات المسطرية الهادفة للكشف عنها, من بحث بوليسي وإنابات قضائية وتكييف النيابة العامة للفعل وإعطائه صفة المخالفة للقانون الجنائي ومحاكمة وتنفيذ عقوبة, ولا تسقط هذه الدعوى العمومية, إلا طبقا لما نصت عليه مقتضيات المادة الرابعة من ق م ج والتي جاءت على سبيل الحصر,
المادة 4 : تسقط الدعوى العمومية بموت الشخص المتابع، وبالتقادم وبالعفو الشامل وبنسخ المقتضيات الجنائية التي تجرم الفعل، وبصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به, وتسقط بالصلح عندما ينص القانون صراحة على ذلك.تسقط أيضا بتنازل المشتكي عن شكايته اذا كانت الشكاية شرطا ضروريا للمتابعة، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.
وتتقادم هذه الدعوى العمومية بمرور سنين حددها المشرع لكل نوع من الجرائم, حسب خطورتها والضرر الحاصل للمجتمع من جراء اقترافها, إلا أن هذه المدد قد تختلف ما بين النص الجنائي العام والنصوص الجنائية الخاصة, وقد نصت المادة الخامسة من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي,
المادة 5 : تتقادم الدعوى العمومية ما لم تنص قوانين خاصة على خلاف ذلك بمرور:
- خمس عشرة سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية,
- أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة
- سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب المخالفة,
غير أنه إذا كان الضحية قاصرا, وتعرض لاعتداء جرمي ارتكبه في حقه أحد أصوله أو من له عليه رعاية أو كفالة أو سلطة, فإن أمد التقادم يبدأ في السريان من جديد لنفس المدة ابتداء من تاريخ بلوغ الضحية سن الرشد المدني,
لا تتقادم الدعوى العمومية الناشئة عن الجرائم التي ينص على عدم تقادمها القانون أو اتفاقية دولية صادقت عليها المملكة المغربية, وتم نشرها بالجريدة الرسمية.
من هنا يمكن تعريف الدعوى العمومية كالتالي, الدعوى العمومية هي جميع الإجراءات الجزائية التي تقوم بها النيابة العامة أو قاضي التحقيق أوالجهات المخول لهاذلك قانونا,لإثارة متابعة في حق شخص معلوم أو مجهول ارتكب جرما معينا, مع استئثار النيابة العامة بممارستها والمطالبة بتطبيق القانون وإنزال العقاب في حق الفاعل, مالم تسقط هذه الدعوى العمومية أو تتقادم أو يتم وقف سيرها أو التخلي عنها.
وإذا كانت الدعوى العمومية هو المسار الذي تتبعه الجهات المعنية, للتثبت من الجرائم والتأكد من مرتكبيها وإحالتهم للمحاكمة, فإن المشرع خص لها في سبيل ذلك عدة مصالح وجهات تقوم بمباشرة هذه الأبحاث, تحث إشراف النيابة العامة من شرطة قضائية وشرطة تقنية وأخرى علمية ودرك ملكي وطب شرعي ومختبرات وطنية, تسعى جميعها للوقوف على الحقائق والتأكد من الأدلة والبحث عن وسائل الإثبات.كما أشرك كل مواطن في محاربة الجريمة, عن طريق تحميله مسؤولية التبليغ عنها وتقديم المساعدة لكل شخص في حالة خطر, بل تجاوز ذلك في بعض القوانين المعاقبة عن الجرائم الخطيرة, مثل الإرهاب وغسيل الأموال ليدخل في دائرة التجريم المتهاون في القيام بالتبليغ عن الحالات المشبوهة, وكل من عقد النية لارتكاب أفعال مجرمة, وذلك في محاولة لقطع دابر الجريمة من أصلها واستتباب الأمن وحماية المواطن,
المبحث الثاني : الفرق بين القانون الجنائي العام والقانون الجنائي الخاص
اختلفت الآراء الفقهية حول تبيان الفرق بين القانون العام والقانون الخاص, انطلاقا من عدة مفاهيم ومرتكزات منها :
- أن القانون العام قواعده آمرة والقانون الخاص قواعده مكملة, لدخول مبدأ سلطان الإرادة في العلاقات الخاصة بين الأفراد,
- أن القانون العام يهدف إلى تحقيق مصلحة عامة والقانون الخاص يهدف إلى تحقيق مصلحة خاصة,
- أن القانون العام لا ينظم العلاقات المالية على خلاف القانون الخاص الذي ينظم العلاقات المالية الخاصة بالأشخاص,
- أن القانون العام هو الذي تكون فيه الدولة طرفا بصفتها صاحبة السيادة, والقانون الخاص هو مجموعة من القواعد التي تنظم العلاقاتبين الأشخاص فيما بينهم, أو بين الدولة كشخص عادي مع طرف آخر,
وبالنسبة للقانون الجنائي نفسه فهناك من يصنفه في أنه قانون خاص, لأنه ينظم العقاب والزجر عن جريمة فيها اعتداء على حقوق الأشخاص في أجسادهم أو أموالهم, في حين يرى البعض الآخر أن القانون الجنائي يبقى قانونا عاما, لأنه يعاقب عن الجريمة التي فيها مس بالمصلحة العامة,وتحدث اضطرابا بالمجتمع الذي أوكل للدولة الحق في العقاب, في إطار العقد الاجتماعي, ودليلهم في هذا أن ضحية الجريمة, لا يمكنه التنازل عن حقه في إنزال العقوبة, لأنها من اختصاص النيابة العامة التي تمارسها باسم المجتمع, عن طريق الدعوى العمومية, إد لا يملك الوكيل العام للملك أو وكيل الملك التنازل عنها أو التصالح بشأنها إلا في حدود القانون, كما أن قانون المسطرة الجنائية أو ما يصطلح عليه بقانون الإجراءات والذي يبقى بمثابة سكة الحديد التي يمشي عليها القانون الجنائي, جاءت مخاطبة العموم وقابلة التطبيق على أي أحد دون تحديد, مما يؤكد أن القانون الجنائي هو قانون عام وليس خاصا.
إلا أن الشائع فقها وقضاء أن القانون الجنائي في حد ذاته ينشطر إلى قسمين, قانون جنائي عام ويسمى القسم العام يظم جل الجرائم, وقانون جنائي خاص ويسمى القسم الخاص ينظم بعض الجرائم اعتبرت خاصة بطبيعتها, منها مثلا جرائم التسميم والرشوة والتزوير والمؤامرة....., اعتبارا أن القسم العام جاء ليحدد الفعل والامتناع المحظور قانونا, في حين جاء القسم الخاص ليجرم أفعالا محددة وعلى سبيل الحصر, نظرا لخطورتها أو لظروف أو صفة لصيقة بها أو بمرتكبيها أو بسبب العقوبات المقررة بشأنها, بل الأكثر من هذا أن هذا القسم الخاص هو الأقدم من حيث النشأة عن القسم العام, لأنه كان يأتي متزامنا ليزجر كل فعل على حدا ظهر في وقته أنه مخالف لما استقرت عليه الشعوب, فمثلا القتل العمد أو المؤامرة تبقيا من الأفعال المجرمة منذ أولى الحضارات, في الوقت الذي تبقى فيه جريمة عدم تنفيذ عقد أو استعمال ناقلة دون إذن مالكها- وهما جريمتين في القسم العام - من الأفعال التي جرمت أخيرا, إذ كانت قبل هذا تدخل في إطار المسؤولية التقصيرية وينظر فيها القضاء المدني,
ومن وجهة نظري المتواضعة, أرى أن القانون الجنائي برمته هو قانون عام, لأنه وحسب جل التشريعات يبقى المرجع والقانون الأم بالنسبة للتشريع الجنائي, أضف أنه قابل للتطبيق على كل مواطن أو أجنبي أو عديم الجنسية, يتواجد داخل الحدود الإقليمية للدولة مصدرته, ويخاطب في مقتضياته شخصا مجهولا, لا يعرف إلا يوم اقترافه للفعل المجرم, في إطار حالة تلبس أو اعتراف, فالعمومية تستشف من خلال العبارات والمصطلحات المستعملة من طرف المشرع الجنائي, حينما يقول: لا يعذر أحد... وكل شخص... وكل من...وفي هذا دلالات على أن المخاطب هو شخص عام غير محدد, كما أن المجني عليه هو كل مواطن يكون ضحية الفعل الجرمي, وأن المادة الجنائية المعاقبة تنطلق من هذا المبدئ كأصل وتسطر الاستثناء في آخر الفقرة, لظرف لصيق بالضحية كقصر في السن أو عاهة أو اختلاف في الجنس.أو ظرف شخصي لصيق بالفاعل كصفة أو وظيفة, يترتب على توافرها سلوك مسطرة خاصة, لا تعفي من المساءلة بقدر ما تسطرها في شكل معين, يكون في خالب الأحيان ظرف تشديد لا يخدم صاحب هذا الامتياز.
وإذا انطلقنا من هذا الافتراض أن القانون الجنائي هو قانون عام, فهل هناك قانون جنائي خاص؟ ولماذا سيكون خاصا ؟.
لقد كان لتقدم الشعوب وتطور الحضارات, أثرا بالغا في إخضاع المجالات الصناعية والتجارية والمهنية إلى ترسانة واسعة من التشريع, تهدف بشكل مباشر إلى تقنين هذه الميادين وإخضاعها لقوانين تنظم حياتها اليومية, سواء الداخلية أو في معاملتها مع الغير, فتأتي هذه القوانين في شكل شرح واسع لهذا الميدان أو هذه المهنة, منظمة بذلك شروط الالتحاق أو الانخراط بها, ثم طريقة المزاولة أو ممارسة النشاط, وكيفية التعامل والتعاقد مع ترتيب الجزاء عن كل إخلال أو مزاولة غير مشروعة, ولأن الجزاء هنا قد يبدأ من التوبيخ أو الإنذار أو الفصل أو العزل- وهي عقوبات تأديبية تدخل في صميم اختصاص السلطة الرئاسية أو الجهة الوصية- إلى الجزاء الزجري الذي يبقى من اختصاص القضاء, بالنظر لخطورة الفعل المرتكب من طرف الشخص المعني بهذا القانون, لهذا اضطر المشرع وبمبادرة من الهيئات المعنية, إلى تسطير عقوبات جنائية في هذه القوانين التي أصبحت تكتسي صفة الخصوصية, لأنها تعنى بمجالات خاصة وبفئة معينة من المجتمع, ولأن ما يمكن أن تقدم عليه هذه الفئة من أفعال ضارة بالمجتمع أثناء مزاولتها لمهامها, لهذا اضطر المشرع إلى تجريمها وترتيب عقاب عليها, في إطار جد ضيق محصور بزمان ومكان وصفة, ومن هنا يمكن القول أن هذا هو القانون الجنائي الخاص, لأنه ما كان لذلك الفعل أن يجرم إلا لأنه نادر أو جديد على الساحة الإجرامية أو متعلق بمجال ضيق, أو أن الفاعل له صفة خاصة, أو اقترف هذا الجرم في وقت محدد أو في ظروف خاصة, أو أن التجربة اليومية أثبتت بأن الفعل يخفي في طياته جرما, وأن هذا الجرم فيه ضرر للمجتمع, ولو في حق مواطن واحد و فريد, ففي الوقت الذي تحاول فيه الهيئات المهنية والمنظمات المؤسسة بمقتضى القانون, حماية حقوقها وتقوية وجودها على الساحة, يتدخل المشرع في ذات الوقت لحماية المواطن وتحقيق التوازن بين كافة الجهات.
المبحث الثالث : النيابة العامة وقيود المتابعة في القانون الجنائي الخاص
إذا كانت النيابة العامة تبسط يدها على الدعوى العمومية, وتحتكر بامتياز الحق في تحريكها وإقامتها وممارستها, وذلك لأنها الجهة الوحيدة التي أوكل لها المشرع هذا الحق للتقاضي باسم المجتمع, فإنه قد غل يدها في عدد من القوانين الجنائية الخاصة, وحصر أمر تحريكها أولا لجهات معينة, وتكون إما إدارة عمومية أو هيئة منتخبة أو المشتكي نفسه, ولم نقل المتضرر نفسه, لأنه ليس بالضرورة أن يكون كل مشتك متضرر, لأن المشتكيهو كل شخص تقدم بشكاية مكتوبة أو تصريح دون في محضر أمام جهات قضائية أو إدارية - لها الحق في تلقي الشكايات - من أجل جريمة معينة، يفترض فيه أنه تضرر منها أو من مرتكبها، معبرا من خلال شكايته عن رغبته في إجراء البحث وإنزال العقاب والاستفادة من تعويض عن ذلك, فتختلف بذلك طريقة تحريك الدعوى العمومية عن الطريقة المألوفة أو المعتادة, إذ تغل يد النيابة العامة ولا يمكن لها مباشرة البحث في جريمة معينة, إلا بعد أن تبدأ الجهة المسؤولة بتقديم شكاية أو محضر متضمن لمعاينة الجرم أو ترخيص بإجراء البحث, فتبدأ الدعوى العمومية أنداك بالسريان, كما أن تنازل هذه الجهة عن شكايتها يضع حدا للدعوى وتسقط بالتالي وكأنها لم تكن من قبل, من دون أن تترك لها أي أثر على الأطراف المعنية بالتنازل, ولا ينحصر هذا الاختلاف في طريقة تحريك الدعوى العمومية والإذن المطلوب لذلك, أو مبادرة الجهة المعنية, بل يتعداه إلى خصوصيات أخرى, في العقوبة أو التقادم وغيرها, ومثال ذلك تقادم الدعوى العمومية في قضايا الانتخابات, المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس النواب, المقامة بموجب المادة 39 وما يليها من المواد إلى غاية المادة 43 و45 و57 من القانون التنظيمي رقم 11/27 المتعلق بمجلس النواب, إذ تتقادم العقوبة بمضي ستة أشهر من يوم إعلان نتيجة الانتخاب.
وإذا قمنا بتقسيم القوانين الجنائية الخاصة انطلاقا من معيار الجهة المشتكية, لمعرفة مدى اختلاف طرق تحريك الدعوى العمومية فيما بينها, لوجدنا التصنيف التالي:
الإدارة العمومية كجهة مشتكية:
لقد أوكل المشرع المغربي لبعض الإدارات العمومية الحق في تحريك الدعوى العمومية في مجال اختصاصها, وذلك حماية منها لهذا الميدان ومراقبته والعمل على زجر المخالفين لقوانينه, إلا أنه إذا كان هذا المخالف للقانون حدثا, فلا يمكن لهذه الجهة الإدارية تحريك الدعوى العمومية في حقه, بل يرجع الاختصاص للنيابة العامة وحدها, رغم أن يدها تكون مغلولة لو كان المخالف راشدا, وهكذا تطرق الظهير الخاص بزجر الغش عن البضائع للجهات الموكول لها التثبت من المخالفات ورفعها للنيابة العامة وهكذا نص الفصل 43 على مايلي : تقوم الإدارات والمصالح التابعة للدولة، وفق الإجراءات الخاصة، بإثبات كل من الأفعال المخالفة للنصوص التنظيمية المعهود إليها بتطبيقها وكذا المخالفة لأحكام هذا القانون، وبالمتابعات بشأنها. غيرانه يجب على الإدارات والمصالح التابعة للدولة فور إحالتها الأفعال المنصوص عليها في الفقرة أعلاه إلى وكيل الملك أوالوكيل العام للملك – أن تخبر بذلك حالا رئيس المصلحة المختصة من أجل إبداء رأيه.
الفصل44 :إن موظفي ومأموري زجرالغش المحلفين مؤهلون للقيام خلال مزاولة مهامهم بإثبات المخالفات للقوانين والأنظمة الداخلة في اختصاص الإدارات والمؤسسات العامة الآتية:
- إدارة الجمارك والضرائب غيرالمباشرة؛
- مصلحة القياسة القانونية؛
- مصلحة مراقبة الأسعار؛
- المكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني؛
- المكاتب البلدية للمحافظة على الصحة؛
- مصالح البيطرة وتربية المواشي.
وتوجه فورا أصول المحاضر المثبتة فيها المخالفات المذكورة إلى المكاتب المحلية للإدارات أوالمؤسسات العامة، ويوجه المأمور محرر المحضرنسخة منه قصد الاطلاع إلى رئيس المصلحة التي ينتمي إليها.
كما نصت على ذلك المادة463 من قانون المسطرة الجنائية, ومثال ذلك الفرع الرابع من القانون الجنائي, الخاص بالجنايات والجنح التي يرتكبها ممونو القوات المسلحة الملكية, الذي نص في الفصل 281 على أنه لا يمكن إثارة المتابعة إلا بناء على شكاية من وزير الدفاع الوطني, علما أن هذا المنصب لم يعد موجودا بالمغرب, ثم هناك إدارة الجمارك التي لها الحق في ضبط المخالفات الجمركية بجميع أشكالها ومخالفات الصرف وتحويل العملة وحيازة والمخدرات, إذ تبقى هذه الإدارة العامة بمثابة صمام الأمن القومي وحارس السيادة المغربية, بمراقبتها للحدود وتفحص جميع الواردات, بواسطة موظفيها الذين يحمل أغلبهم الصفة الضبطية, التي تخول لهم الحق في ضبط المخالفات وتحرير محاضر بشأنها, طبقا للفصل 233من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة الذي ينص على ما يلي : يقوم بإثبات الأفعال المخالفة للقوانين و الأنظمة الجمركية أعوان الإدارة الذين أدوا اليمين طبقا للشروط المحددة في الفصل 33-2 من هذه المدونة وضباط الشرطة القضائية وكذا كل الأعوان محررو المحاضر التابعون للقوة العمومية.وقد أعطى المشرع المغربي للأعوان الحق في القيام بالأبحاث التمهيدية وتفتيش الأماكن والحق في حمل السلاح,أما فيما يخص تحريك الدعوى العمومية وممارستها فقد تناولها الفصل 249من نفس القانون الذي جاء فيه:
- في حالة ارتكاب جنحة من الجنح الجمركية المنصوص عليها والمحددة في الفصلين 279 المكرر مرتين و 281 بعده, يتولى تحريك الدعوى العمومية, النيابة العامة أو الوزير المكلف بالمالية أو مدير الإدارة أو أحد ممثليه المؤهلين لذلك.
- لا يمكن في حالة ارتكاب المخالفات الجمركية المنصوص عليها والمحددة في الفصول 285 و 294و 299 بعده, تحريك الدعوى العمومية إلا بمبادرة من الوزير المكلف بالملية أو مدير الإدارة أو أحد ممثليه المؤهلين لذلك.
ومن هنا يمكن القول أن إدارة الجمارك تطبق القوانين الجمركية والقوانين الأخرى الموازية, في إطار الامتياز الذي أسند لها بمقتضى التشريع, لضمان الأمن القومي الوطني وحفظ سيادة الدولة وحماية الاقتصاد الداخلي داخل منطقة اختصاصها, وبهذا التعريف يبقى القانون الجمركي قانونا عاما, في حين تدخل مقتضياته الزجرية في خانة القانون الجنائي الخاص,وذلك لاختلافها بكل المقاييس عن القانون الجنائي العام, سواء من ناحية مدد التقادم التي ظلت خمس سنوات, بدلا من أربع سنوات المنصوص عليها بالنسبة للجنح في قانون المسطرة الجنائية, أو من حيث الإبقاء على المعتقل رهن الاعتقال مدة 24 ساعة بعد قرار السراح, إلى حين التصريح باستئناف إدارة الجمارك من عدمه, وكذا الاختلاف الموجود في مدد الإكراه البدني بين القانونين, وفي التصريح بالطعن بالزور أمام كاتب الضبط بدلا من النيابة العامة, مع أداء غرامة حالة خسر الدعوى,ووجوب ذكر محرر المخالفة الجمركية لمحل سكناه بصلب المحضر, خلافا لشروط تحرير المحضر المنصوص عليها بقانون المسطرة الجنائية, إمكانية مصادرة المحجوز لتفاهة الغش, اعتبار المحاضر المحررة من طرف أعوان القوة العمومية والأخذ بها في المتابعات, عدم صيرورة الصلح نهائيا إلا بعد المصادقة عليه من طرف الوزير المكلف بالمالية أو مدير إدارة الجمارك, مما يؤكد عدم وجود تفويض في التسيير وعدم استقرار المعاملات مع هذه الإدارة.
الهيئة المنتخبة كجهة مشتكية:
بالإضافة للإدارات العمومية التي أعطاها المشرع الحق في إثارة الدعوى العمومية, هناك إلى جانبها جهات أخرى متعها المشرع بنفس الحق, كالهيئات المنتخبة سواء العامة أو الخاصة, ومنها على سبيل المثال قانون رقم 01/17 المتعلق بالحصانة البرلمانية, إذ يرفع الوكيل العام للملك طلب الإذن بالمتابعة لوزير العدل طبقا للفصل 39, هذا الأخير الذي يحيله على رئيس مجلس البرلمان المعني, فيتم التداول بشأن الطلب خلال نفس الدورة, ثم يبلغ وزير العدل بالقرار المتخذ, ولا يسري هذا الإذن إلا على الأفعال المشار إليها في طلب الإذن, كما نجد القانون رقم 82/02 المتعلق باختصاصات المحتسب وأمناء الحرف الذين يتم انتخابهم, فهم لهم الحق وحدهم في تحرير محاضر بالمخالفات التابعة لاختصاصهم ورفعها إلى وكيل الملك طبقا للفصل الخامس من نفس القانون, وكذلك الشأن بالنسبة للمجالس البلدية والقروية, التي خصها المشرع بتحريك المتابعات في مجال مخالفات البناء, إذ لا يمكن للنيابة العامة وضع يدها على مخالفات البناء, إلا بعد التوصل بشكاية من المجلس البلدي أو القروي, الذي يطلب منها تحريك المتابعة, وأنه في حالة إجراء مصالحة, يحال التنازل عليها فتقوم بحفظ الدعوى العمومية, أو يقدم أمام القضاء الذي يقضي بسقوطها,
المتضرر كجهة مشتكية :
هناك نصوص كثيرة في القانون الجنائي, اشترط فيها المشرع عدم ممارسة النيابة العامة للدعوى العمومية, بشأن الأفعال المنصوص عليها في هذه المواد, إلا بوجود شكاية المشتكي التي تكون بمثابة الشرط الواقف, الذي لا يمكن بدأ الدعوى العمومية إلا بها, ومنها مثلا جرائم الخيانة الزوجية والسرقة والنصب والاحتيال وخيانة الأمانة بين الأقارب وغيرها من الجرائم, وكذا الفصل 303 من قانون المسطرة الجنائية الذي يجرم تصوير كل شخص في حالة اعتقال أو يحمل أصفادا أو قيودا بدون موافقته, أو نشر تحقيق أو تعليق أو استطلاع يتعلق بشخص تجري في حقه مسطرة قضائية بصفته متهم أو ضحية, حيث لا يمكن متابعة الفاعل هنا إلا بناء على شكاية من الشخص المعني بالأمر, وفي المادة 475 من القانون الجنائي ينص المشرع على ما يلي: من اختطف أو غرر بقاصر تقل سنه عن ثمان عشرة سنة بدون استعمال عنف ولا تهديد ولا تدليس أو حاول ذلك[1]، يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين[2] إلى خمسمائة درهم. ومع ذلك، فإن القاصرة التي اختطفت أو غرر بها، إذا كانت بالغة وتزوجت من اختطفها أو غرر بها فإنه لا يمكن متابعته إلا بناء على شكوى من شخص له الحق في طلب إبطال الزواج، ولا يجوز الحكم بمؤاخذته إلا بعد صدور حكم بهذا البطلان فعلا.
وفي هذه الحالة يصعب تحديد الأشخاص الذين لهم الحق في طلب إبطال الزواج, فمن البديهي أن يكون أولهم هو أب الزوجة, ولكن يمكن أن يكون أي شخص آخر كالولي أو الأم أو الإخوة أو الخطيب السابق لها, ولما لا النيابة العامة أو قاضي شؤون القاصرين, وبالتالي فكل هؤلاء الأشخاص لهم الحق في تحريك المتابعة ضد الزوج من أجل جريمة الاختطاف, ولكن هذا القيد المشروط على هذه الدعوى العمومية, يعترضه شرط آخر وهو صدور حكم ببطلان الزواج أولا, للتمكن من تحريك المتابعة ثانيا, وهل يشترط هنا صيرورة الحكم القاضي بالبطلان نهائيا للقول بتحريك المتابعة أم لا,
حالة تعدد المشتكين :في بعض الحالات يكون الفعل الجرمي الواحد قد ألحق ضررا بعدة جهات, وبالتالي يصبح لكل واحدة منها الحق في إثارة الدعوى العمومية, انطلاقا مما أصابها من ضرر, ومثالها : الجار الذي يقدم شكاية ضد جاره من أجل الخيانة الزوجية التي ارتكبها هذا الأخير دون علم زوجته التي لها الحق وحدها في تحريك الدعوى العمومية، لأن العبرة هنا هي الضرر الذي لحق المشتكي, والذي قد يكشف عنه البحث فيتبين أن هناك جرائم أخرى لم يستطع المشتكي الإخبار عنها لجهله بالقانون أو عدم درايته به, ففي هذه الحالة قد يصاحب جريمة الخيانة الزوجية جرائم أخرى مثل التحريض على الفساد أو الإخلال العلني بالحياء، أو إعطاء القدوة السيئة للأولاد, وهذه الجرائم بطبيعتها قد تلحق ضررا بعدد من الأشخاص, فتصبح لهم جميعا صفة المشتكي, فهل تقدم أحدهم بشكاية من أجل ما أصابه سيفتح الباب بالتالي للنيابة العامة للبحث في الخيانة الزوجية التي تتوقف على شكاية الزوجة؟
نعم إن منطق الأمور يعطي الحق للجهات المنتصبة لذلك للبحث في الشكايات والوشايات كيفما كانت, والاستماع بالتالي لكل المعنيين في النازلة, بما فيهم الشريك في الزوجية, والذي سيعبر آنذاك بعدم رغبته في متابعة شريكه ليرفع المحضر للنيابة العامة التي ستقضي بسقوط الدعوى العمومية في حق المستفيد من التنازل,
حالة تعدد المشتكى بهم : نجد بعض المواد الجنائية تتحدث عن عدد من المتورطين في فعل واحد, إما بالترتيب أو التدرج, ومنها مثلا المادة الفصل 468من القانون الجنائي الذي ينص على ما يلي:
الأب، وعند عدم وجوده، الطبيب أو الجراح أو ملاحظ الصحة أو الحكيمة أو المولدة أو القابلة أو أي شخص حضر الولادة أو وقعت بمحله، يعاقب بالحبس من شهر إلى شهرينوبغرامة من مائة وعشرين[3] إلى مائتي درهم، إذا لم يقم بالتصريح بالازدياد في الأجل القانوني، وذلك في الحالات التي يكون فيها التصريح واجبا,
في حين ذهب المشرع في المواد 31 و16 و24 منالقانون رقم 37.99 المتعلق بالحالة المدنية، الصادر بتنفيذه ظهير شريف رقم 1.02.239 بتاريخ 25 من رجب 1423 (3 أكتوبر 2002 إلى ترتيب مخالف لمسؤولية التبليغ وإلى عقوبات مختلفة,
المادة 31:يعاقب بغرامةمالية من 300 على 1200 درهم كل من وجب عليه التصريح بولادة أو وفاة طبقا لأحكام المادة 16 والمادة 24 ولم يقم بهذا الإجراء، داخل الأجل القانوني.
المادة 16: يقوم بالتصريح بالولادة لدى ضابط الحالة المدنية لمحل وقوعها أقرباء المولود حسب الترتيب:
- الأب أو الأم؛ وصي الأب؛ الأخ؛ ابن الأخ. يقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب، ويقدم هذا الأخير على الأخ للأم، كما يقدم الأكبر سنا على من هو أصغر منه متى كانت له القدرة الكافية على التصريح.
ينتقل واجب التصريح من أحد الأشخاص المذكورين في الفقرة أعلاه إلى الذي يليه في المرتبة متى تعذر التصريح من الأول لسبب من الأسباب. يقوم الوكيل في ذلك مقام موكله.
إذا تعلق الأمر بمولود من أبوين مجهولين، أو بمولود وقع التخلي عنه بعد الوضع، يصرح بولادته وكيل الملك بصفة تلقائية، أو بناء على طلب من السلطة المحلية، أو من كل من يعنيه الأمر، معززا تصريحه بمحضر منجز في هذا الشأن، وبشهادة طبية تحدد عمر المولود على وجه التقريب، ويختار له اسم شخصي واسم عائلي، وأسماء أبوين أو اسم أب إذا كان معروف الأم، ويشير ضابط الحالة المدنية بطرة رسم ولادته إلى أن أسماء الأبوين أو الأب، حسب الحالة، قد اختيرت له طبقا لأحكام هذا القانون.
يبلغ ضابط الحالة المدنية وكيل الملك بالولادة التي سجلت بهذه الكيفية داخل أجل ثلاثة أيام من تاريخ التصريح.
تصرح بالابن المجهول الأب, أمه أو من يقوم مقامها، كما تختار له اسما شخصيا واسم أب مشتقا من أسماء العبودية لله تعالى واسما عائليا خاصا به. يشار بطرة رسم ولادة الطفل المكفول إلى الوثيقة التي تم بمقتضاها إسناد الكفالة طبقا للتشريع الجاري به العمل.
فالسؤال المطروح هنا :
من هي الجهة المسؤولة عن تحريك المتابعة؟
ما هي معايير الاتهام للانتقال من اعتبار أحدهم مسؤولا عن التصريح عوض من قبله في الترتيب؟
هل يجب للمعني بالأمر ذكر العذر الذي يعفيه عن التصريح بالولادة للانتقال إلى من بعده في الترتيب؟
هل يمكن للتابع ترتيبا أن يبلغ عمن قبله لتحريك المتابعة ضد هذا الأخير؟
هل المسؤولية هنا تبقى شرط كفاية- يعني أيا منهم بلغ يعفي الباقين - أم المسؤولية تقوم بمجرد تقاعس من قبلك عن التصريح بالازدياد؟.
علما أن المادة 217 من قانون المسطرة المدنية تنص على أنه: يمكن لكل شخص له مصلحة مشروعة أو للنيابة العامة أن يطلب من المحكمة الابتدائية إصدار تصريح قضائي بازدياد أو بوفاة لم يسبق تقييده بدفاتر الحالة المدنية.
خلاصة :
بعد هذا العرض المتواضع عن الدعوى العمومية في القوانين الجنائية الخاصة, ماذا يمكننا أن نستخلص من هذا الموضوع, فبطرحنا لبعض الأسئلة والتي هي في حد ذاتها بمثابة إشكاليات تستوجب الدراسة والتحليل, سيتضح لنا مدى إيجابيات وسلبيات القوانين الجنائية الخاصة, في إطار الدعوى العمومية,
- هل يغني القانون الجنائي تشريعيا وزجريا عن القوانين الجنائية الخاصة؟
- ألا تسعى القوانين الجنائية الخاصة إلى تكريس الفئوية والنخبوية والابتعاد عن المساواة أمام القانون؟
- ألا تعطل القوانين الجنائية الخاصة مهام النيابة العامة في مراقبة الدعوى العمومية؟
- كيف يمكن تطبيق سياسة جنائية معينة, أمام قوانين جنائية خاصة تقيد يد النيابة العامة؟
- ألا تجعل القوانين الجنائية الخاصة من المشتكي أو المتضرر, المتحكم أو المسيطر في مأل النازلة؟
- كيف يمكن للنيابة العامة فرض رقابتها على الجهات المكلفة بتحرير المحاضر في القضايا الجنائية الخاصة؟
ذ:عبد العالي المصباحي
Comments