top of page
Rechercher

الشرطة العلمية والتقنية بين الواقع والقانون

elmisbahiabdelali

مقدمة :

لقد تطور مفهوم الشرطة عبر التاريخ من نظام العسس أو الحرّاس إلى نظام صاحب الشرطة ثم الشرطة بمفهومها الحالي، وكان هذا التدرج نتيجة لتنوع الوظائف المسندة إليها، إذ انتقلت من إقامة الحدود والتعزير إلى تحصيل الجزية والخراج ثم الحسبة فالحراسة الخاصة للوالي أو الأمير ومراقبة الطرقات والمسالك والقيام بالتفتيش، إلى أن أطلق على صاحب الشرطة في العصر الأموي والفاطمي بصاحب المدينة، لما بلغت إليه الشرطة آنذاك من اختصاصات عامة تشمل تقريبا كل الميادين المجتمعية.

وإذا كان اختصاص الشرطة آنذاك يتمحور بالأساس حول الحماية من الجريمة أو العمل على الوقاية من وقوعها - كما يصطلح عليه اليوم بالشرطة الإدارية - فإن زجر مرتكبيها متى وقعت، كان بالضرورة يدخل في امتداد اختصاصاتها، إما بمجرد صدور حكم بالإدانة من طرف القاضي أو الوالي، أو تلقائيا في بعض الجرائم التي كانت تسارع بمعاقبة مرتكبيها. وهذا بالمفهوم الضمني يقودنا بالضرورة إلى أن هذه المؤسسة كان لها نظام خاص ووسائل منتظمة في البحث عن الجرائم والكشف عن مرتكبيها. هذا النظام الذي تطور عبر العصور ليصبح وظيفة قائمة الذات، ألا وهي الشرطة العلمية والتقنية.

والشرطة العلمية والتقنية علم طوره الأشخاص المكلفون بالفصل في النزاعات والبحث عن الجرائم والكشف عن المجرمين، فتطورها جاء بجمع حقائق علمية من مختلف المجالات وتوظيفها في البحث بمسرح الجريمة ومحيط المشتبه فيه. حيث نجد أن علوما كانت مستقلة بذاتها أو اكتشف أنها تفيد في البحث في الجرائم، فتم توظيفها لهذا الغرض والعمل على تطويرها لفائدة الأبحاث البوليسية المكلفة بالكشف عن الجريمة والمجرمين. ومثالها علم الأحياء بكل تفرعاته " علم الأنسجة – الكيمياء الحيوية – علم النبات – علم الحشرات – علم الوراثة – علم الصيدلة ..."، ثم علم الرياضيات، وعلم الطباعة وصك النقود، وعلم الاتصالات السلكية واللاسلكية، وعلم الأضواء الكاشفة، وعلم تحقيق الخطوط، وعلم البصمات، كلها علوم لم تحدث خصيصا للكشف عن الجرائم، وإنما ظهرت علاقتها القوية مع تطور البحث العلمي الذي أصبح يسخر إمكانياته المعرفية في خدمة جهاز الشرطة التقنية والعلمية.

وليست هذه التقنيات حديثة اليوم، بل وكما قلنا هي تطورت عبر الأحقاب بالاستفادة من نباهة رجال الشرطة والقضاء والولاة القائمين آنذاك على الفصل في شؤون الناس. فقد عرف على أحد القضاة في القدم النباهة والذكاء في كشف المجرمين، إذ جاءه رجلان الأول تاجر والثاني سمّان (بائع السمن)، كل منهما يدعي ملكيته لكيس من النقود، فأمرهما بالعودة في اليوم الموالي ثم وضع القطع النقدية طيلة الليلة بقدح به ماء ، وفي الصباح أرجع المال للتاجر وأمر بحبس السمان، مبررا ذلك بأنه لو كان المال للسمان لطفت آثار السمن على الماء. وهذا إن صح القول هو صلب عمل الشرطة العلمية والتقنية حاليا، التي تستخرج دليل الإدانة من جسم الجريمة نفسها أو من محيط مسرح الجريمة أو من المشتبه به أو من السلاح المستعمل في ارتكابها، وذلك باستخدام العلم للوصول إلى هذه الحقائق الثابتة.

فالسؤال المطروح هو :

- هل استطاع العلم أن يخدم العدالة؟

- كيف تعامل المشرع مع الأمور التقنية والعلمية؟

- هل القضاء مقتنع بالنتائج العلمية ويعتمدها كوسيلة إثبات؟

v العلم وخدمة العدالة

لا أحد ينكر فضائل العلم في خدمة العدالة، أو بلغة أصح فضائل العلم في العمل على مساعدة القائمين على القضاء في تحقيق العدالة في جميع تجلياتها، حتى أصبح سراجها المنير في كشف الجرائم، وحجتها القاطعة في إدانة الجناة، وعمادها في التجريم والعقاب. وهكذا نجد الدول الرائدة في علم الإجرام كالولايات المتحدة مثلا، قد قطعت أشواطا مهمة في تسخير العلم في خدمة العدالة ومكافحة الجريمة، فنجد استخدامها لبرنامج predictive policing "PREDPOl" أو ما يصطلح عليه ببرنامج التنبؤ بالجريمة الذي تستخدمه الشرطة في تحديد المناطق المحتمل وقوع الجرائم بها. وكذا تقنية تثبيتها لمكبرات الصوت بالشوارع والأزقة لنقل صوت كل الطلقات النارية مباشرة للدوائر الأمنية، وهو ما يسمى ب " Shot Spotter " أو كاشف صوت الرصاص. وبرنامج الكاميرات الذكية التي تصل إلى حد جسّ نبض قلوب المارة وكشف تحركات أعينهم لتمييز الرجل العادي من المتوجس أو الخائف بسبب تورطه في جرم معين. وتقنية حفظ التراكيب الوراثية أو ما يسمى ببنك المعلومات الوراثية أو بنك الجينات، الذي يجمع البصمات الوراثية "ََADN" للأشخاص موضوع المتابعات الجنائية للرجوع إليها أثناء البحث عن الفاعلين في القضايا الجرمية مما يسهل التعرف على الفاعل من خلال قاعدة البيانات المحفوظة مسبقا من طرف البنك. وهذه التقنيات العلمية المتطورة تؤكد لنا بالدليل مدى أهمية العلم في خدمة العدالة، التي يبقى همها الأول هو الكشف عن الجرائم والوصول إلى المجرمين.

v المشرع المغربي وتطور العلم

تعرف الساحة القضائية اليوم بكل مكوناتها جدالا قانونيا حادا حول مدى اعتماد العلم كوسيلة من وسائل الإثبات القاطعة، أو التقيد الحرفي بالنص القانوني، وهذا الأمر قسّم رجال القانون إلى قسمين، ما بين تيار يساير العلم ويجتهد في إطار "تطبيق القانون لتحقيق العدالة" كغاية نهائية، وآخر ثابت ومستقر يطبق القانون في إطار مبدأ "لا اجتهاد مع النص". فكلاهما له مبرراته ووسائل إقناعه ولا أحد ينكر أن كل واحد منهما صائب في أمره، ولكن هذا الاختلاف لا يخدم الأمن القضائي في شيء، ويساهم في صدور أحكام متناقضة واجتهادات قضائية متضاربة، ويعود وبالا على صاحب الحق متى لم ينفعه العلم في إثبات براءته أو استرجاع حقه، أو يدخله في دوامة الإدانة والتبرئة متى انتقل بين هذه الهيئة أو تلك، أو ما بين أصحاب هذا التيار و التيار الآخر.

فإذا أخدنا الخبرة الجينية أو خبرة الحمض النووي كوسيلة من وسائل الإثبات والتي تأكد علميا وبالقطع أن نتائجها تبقى صحيحة مائة بالمائة، لأن الخبرة أصلا في التعريف اللغوي هي العلم بالشيء على حقيقته، ومع ذلك نجد المشرع المغربي لازال يرفض الأخذ بها إما بصريح التنصيص على ذلك في مواد معينة أو يضعها في خانة السلطة التقديرية للقضاء لتبقى ما بين أخذ أو استبعاد.

ففي قانون المسطرة المدنية، لم يعرف المشرع المغربي الخبرة واعتبرها في إطار الفصل 55 منه، إجراء من إجراءات تحقيق الدعوى، وهذا تماشيا مع قانون الالتزامات والعقود في فصله 404 الذي لم يدخلها ضمن وسائل الإثبات، حيث اعتبر وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي :

1 - إقرار الخصم؛

2 - الحجة الكتابية؛

3 - شهادة الشهود؛

4 - القرينة؛

5 - اليمين و النكول عنها.

دون أن يتحدث عن الخبرة كما فعل المشرع السوري الذي عددها في المادة الأولى من قانون البيّنات وهي: "الأدلة الكتابية والشهادة والقرائن والإقرار واليمين والمعاينة والخبرة". إلا أن العمل القضائي سار على خلاف ذلك واعتبر الخبرة وسيلة من وسائل الإثبات، إما صراحة كما جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 4963 بتاريخ 29/5/ 1984، والذي عرفها بأنها: “ وسيلة من وسائل الإثبات تملك معها المحكمة سلطة تقديرية لا تخضع فيها لرقابة المجلس الأعلى“. أو بطريقة ضمنية، كما ذهبت إليه محكمة النقض في قرارها عدد 241 الصادر بتاريخ 29 مارس 2016 في الملف المدني عدد 3874/1/3/2015 المنشور بنشرة قرارات محكمة النقض العدد 27، مؤكدة ما استقر عليه المجلس الأعلى، على أن ما جاءت به الخبرة يعد قرينة، والقرينة هي وسيلة من وسائل الإثبات حسب الفصل 404 من ق ل ع. ومن هنا يمكن أن أخلص للنتيجة التالية ألا وهي "أن الخبرة إجراء من إجراءات تحقيق الدعوى متى أمر بها، وهي وسيلة إثبات متى أخذ بها".

وفي قانون المسطرة الجنائية كذلك لم يعرف المشرع المغربي الخبرة، أسوة بما فعل في باقي القوانين الإجرائية الأخرى، خصوصا الباب المتعلق بالأبحاث التمهيدية. إلا أننا نجده قد تطرق إليها في ثلاث مراحل وهي:

- الخبرة أثناء مرحلة البحث التمهيدي؛

– الخبرة أمام قاضي التحقيق؛

– ثم الخبرة أثناء المحاكمة.

أشار المشرع للخبرة في سياق البحث التمهيدي في المادة 47 من ق م ج على أنها: "يمكن لوكيل الملك إذا عرضت عليه مسألة تقنية أن يستعين بأهل الخبرة والمعرفة. كما يمكنه أن يأمر بإجراء خبرة لتحديد فصيلة البصمات الجينية للأشخاص المشتبه فيهم....". ونص في المادة 57 منه: "يجب على ضابط الشرطة القضائية...أن يحافظ على الأدلة وله أن يستعين بأشخاص مؤهلين لذلك. كما يمكنه أن يطلب إجراء خبرات عليها وعلى بقية أدوات الجريمة....". وأضاف في المادة 64 على أنه: "إذا تعين القيام بمعاينات لا تقبل التأخير، فلضابط الشرطة القضائية أن يستعين بأي شخص مؤهل لذلك، على أن يعطي رأيه بما يمليه عليه شرفه وضميره". وذكرت المادة 77 من نفس القانون على أنه: "يمكن لممثل النيابة العامة أن ينتقل....وأن يستعين بأشخاص لهم كفاءة لتحديد ظروف الوفاة، يجوز لممثل النيابة العامة أيضا أن ينتدب أهل الخبرة للكشف عن أسباب الوفاة".

ويظهر من خلال هذه المواد أن المشرع استعمل عدة مفاهيم للتعبير عن الخبير، فقال أهل الخبرة والمعرفة، وقال أشخاص مؤهلين، وقال أشخاص لهم كفاءة, لينتهي في الأخير بقول أهل الخبرة، وكلها تعابير تحتمل تفاسير عدة، فكل واحد منا قد يعتبر نفسه من أهل المعرفة أو الكفاءة أو أنه مؤهل لإعطاء رأيه في واقعة معينة، وفي هذا ضرر لنجاعة الأبحاث أو في تحويل مسارها الصحيح أو اندثار الأدلة متى تم اعتماد شخص غير متخصص في ما أمر بإنجازه. لهذا نجد المشرع المغربي قد تنبأ لهذه الأخطاء وقدم مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، الذي لازال موضوع مناقشة بصيغ مختلفة فنص في المادة 77 على ما يلي: "يمكن لضابط الشرطة القضائية بعد موافقة النيابة العامة انتداب طبيب شرعي,.... يمكن لممثل النيابة العامة انتداب طبيب شرعي". أي أنه آمن بمسألة الاختصاص على الأقل في باب تحديد أسباب الوفيات أو تشريح الجثث للقول بانتداب طبيب شرعي مختص في النازلة ومسؤول عما سيأتي في تقريره، بعد إجراء خبرته على جسم الجريمة، مما سيساعد القضاء ومن هم تحث إمرته في الكشف عن الأسباب الحقيقية وتحديد - بناء على ذلك - من سيثبت تورطه في الفعل الجرمي. الشيء الذي لازلنا نفتقده في ظل قانون المسطرة الجنائية الحالي. وقد كرست هذه الوضعية القانونية اجتهادا قضائيا لا يعتبر الخبرة المنجزة من طرف الدرك الملكي أو الإدارة العامة للأمن الوطني وثيقة رسمية، رغم أنها صادرة عن جهة أوكل إليها بمقتضى القانون البحث في الجرائم والتثبت من مرتكبيها، وأن ما تحرره من محاضر دون الخبرة يعتبر وثائق رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، وهذا ما ذهب إليه قرار المجلس الأعلى عدد 645/10 الصادر بتاريخ 22 أبريل 2009 ملف عدد 25268/6/10/2008 الذي قضى بما يلي: " إن تقرير الخبرة المنجزة من طرف مصلحة الدرك الملكي والإدارة العامة للأمن الوطني، لا يعتبر وثيقة رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، بل هو مجرد رأي تقني مضمن في خبرة قضائية تخضع للسلطة المخولة لقضاة الموضوع في تقييم الحجج وترجيح بعضها على البعض الآخر".

ففي الوقت الذي نجد فيه أن الشرطة العلمية والتقنية بكل من الإدارة العامة للأمن الوطني والدرك الملكي قد أصبحتا مؤسستين معترف بهما على الصعيد الدولي، لما قدماه من خدمات جليلة ودراسات علمية هادفة بواسطة دكاترة ومهندسين وأصحاب اختصاصات وشواهد عليا، تؤكد تمرسهم وكفاءتهم واقتدارهم. نجد المشرع المغربي لم يخول لهما الصفة الضبطية بعد، ولا يدخل موظفيها ضمن زمرة ضباط الشرطة القضائية، حتى تصبح تقارير المؤسستين بمثابة وثائق رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، أي أن حجيتها قوية ولا يمكن دحضها. وهذا من شأنه تعطيل العلم في خدمة العدالة، وفتح باب الإفلات من العقاب وتكريس مبادئ المدارس التقليدية في مكافحة الجريمة، عوض اعتماد العلم كحجة قاطعة في إثبات الجرائم والكشف عن مرتكبيها. حيث نجد المادة 289 من ق م ج تقضي بما يلي: "لا يعتد بالمحاضر والتقارير التي يحررها ضباط وأعوان الشرطة القضائية ...إلا إذا كانت صحيحة الشكل وضمن فيها محررها وهو يمارس مهام وظيفته ما عاينه أو تلقاه شخصيا في مجال اختصاصه"، وأضافت المادة 291 من نفس القانون: "لا يعتبر ما عدا ذلك من المحاضر أو التقارير إلا مجرد معلومات". ومنها مثلا « الخبرة الجينية» .

فأي تناقض هذا في منطق المشرع، فقد يحضر عناصر الشرطة العلمية والتقنية إلى مسرح الجريمة رفقة ضباط الشرطة القضائية، فيقوم الجميع بجمع الأدلة ورفع البصمات وحجز الوسائل المستعملة في الجرم، ويحرر بذلك محضر الانتقال والمعاينة في إطار حالة التلبس، فتضاف هذه الوثيقة لطيات المحضر الذي يكسب قوته الثبوتية خلال كل مراحل التقاضي، وحينما تنقل هذه الوسائل والمحجوزات للمختبر لتحليلها ودراستها والخروج بخبرة تفكك رموز الجريمة، نجد المشرع يستبعدها ويعتبرها مجرد معلومة تحتمل الصدق والكذب.

وعلى ذكر الخبرة الجينية وبعد ما وصلت إليه من تفوق وإثبات قاطع وبرهان علمي في تحليل الشفرة الجينية، تكاد تكون نسبة الخطأ فيها منعدمة، إذ تنسب إمكانية الخطأ إلى القائمين على العملية لا إلى العينات، مما قد يلحق العينات من تلويث أثناء التحليل. ولم يقف العلم عند هذا الحد بل ظهرت نظرية جديدة إسمها علم التخليق أو علم التخلق المتعاقب أو ما يسمى بالفرنسية l épigénétique، الذي يعنى بدراسة آليات التحكم الزماني والمكاني في نشاط الجينات، خلال تطور الكائنات الحية، إذ أثبت أن هناك شبه سلة مهملات يتخلى فيها الجسم عن حوالي 85% من المكونات الأساسية للخلايا، ولكن يحتفظ دائما وتلقائيا بنسبة 15% المتعلقة بالصفات الوراثية، وهذا يؤكد مرة أخرى أن الخبرة الجينية علم لا يساوره الشك. فهل واكب المشرع المغربي هذه الطفرة العلمية في قوانينه؟.

بالرجوع لقانون المسطرة الجنائية المغربي والذي عمّر لأكثر من ستين سنة، نجده بعيدا كل البعد عن هذه الثورة العلمية، ونستشف ذلك من خلال المواد الأولية التي تنظم إجراءات البحث التمهيدي أو البحث في حالة التلبس وإجراء المعاينات، والتي أعطت لوكيل الملك من خلال الفصل 47 و 77 إمكانية الاستعانة بأهل الخبرة أو إمكانية إجراء خبرة متى عرضت عليه مسألة تقنية، وكذلك الشأن بالنسبة لضابط الشرطة القضائية الذي أعطته المادة 57 و64 إمكانية الاستعانة بأهل الخبرة أو إمكانية طلب إجراء خبرة على أدوات الجريمة والأشياء التي تم العثور عليها. وفي هذا تقصير واضح في استبعاد العلم، فرجال القضاء ورجال الشرطة ليست لهم خبرة بالأمور الطبية والكيميائية والبيولوجية التي من شأنها الكشف عن الجريمة، ومع ذلك استعمل المشرع عبارة الإمكان بدل الوجوب، يعني أن كلا من ممثل النيابة العامة وضابط الشرطة القضائية حر ما بين اللجوء إلى الخبرة من عدمها، ومتى تمت مساءلته عن غض الطرف عن هذا الإجراء الجازم سيتذرع بمقتضيات المادة التي أعطته الإمكان بدل الوجوب. ولم يقف أمر الإمكان في حدود الضابطة القضائية والنيابة العامة، بل تجاوزهما المشرع إلى القضاء، فبالرجوع إلى المادة 194 من ق م ج نجدها تنص على أنه: "يمكن لكل هيئة من هيئات التحقيق أو الحكم كلما عرضت مسألة تقنية، أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا وإما بطلب من النيابة العامة أو من الأطراف".

أما القانون الجنائي المغربي فإنه لم يحد عن سابقه في استبعاد التطور العلمي الذي يخدم العدالة، فحصر وسائل الإثبات مثلا في جريمتي الفساد والخيانة الزوجية في إطار الفصل 493 في ما يلي: "الجرائم المعاقب عليها في الفصلين 490 و491 لا تثبت إلا بناء على محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي". دون أن يدخل الخبرة الجينية ضمن وسائل الإثبات، مما انعكس سلبا على العمل القضائي حيث قضت محكمة النقض بعدم قبول الخبرة الجينية في جريمة الخيانة الزوجية، في قرارها عدد 1024 بتاريخ 26/ 10/ 2011 ملف 9526/ 6/ 3 2011 الذي جاء فيه: "لا تثبت جريمة الخيانة الزوجية إلا بإحدى وسائل الإثبات المحددة حصرا في الفصل 493 من ق ج وهي: محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة تلبس أو اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي، و بالتالي لا تكوّن المحكمة الزجرية قناعتها في ثبوت الجريمة على وسيلة إثبات أخرى غيرها حتى ولو كانت خبرة جينية قاطعة في موضوع النسب". وفي هذا تناقض صارخ فصوت الظنين وسيلة إثبات في جريمة الخيانة الزوجية متى اعترف بعظمة لسانه، ولا عبرة باعتراف باقي جسده متى أقرت خبرة جينية أنه هو الفاعل. فالإنسان جسم وعقل جزء ملموس وجزء محسوس، مادة وروح، قول وفعل، يبطش بيديه ويتكلم بلسانه، فإذا اعترف بلسانه بأنه ارتكب الفعل أخذنا باعترافه، طبقا لمقتضيات الفصل 493 من ق ج، وإذا اعترف جسمه أنه يحمل نفس البصمة الجينية لثمرة الخيانة أو الفساد أبعدنا هذا الاعتراف العلمي القاطع. فماذا نقول عن ظنين أخرس عجز لسانه عن النطق ونطقت جيناته الوراثية بالحقيقة.

v القضاء واعتماد وسائل الإثبات العلمية

بما أن القاضي ملزم بتطبيق القانون والتقيد بحرفية المواد وعدم الاجتهاد مع وجود النص وعدم التوسع في تفسير القانون، فإن هذه الترسانة القانونية هي التي تلازمه خلال مساره المهني فتلجم قناعاته في تحقيق العدالة، وتجعله مكتوف الأيدي في الأخذ بما جدّ من العلوم التي تخدم القضاء وتساعد على كشف الحقائق للوصول إلى أحكام تحقق العدالة في إطار تطبيق القانون بطبيعة الحال. وهكذا وفي إطار التطبيق الحرفي للنصوص وتجاهل الحقيقة العلمية، نجد المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) بجميع غرفه أعتبر أن الولد المزداد داخل أجل سنة من تاريخ الطلاق، هو ابن للمطلق رغم إدلائه بخبرة تثبت عدم قابليته للإخصاب، لأنه كان بإمكانه اللجوء إلى مسطرة اللعان. وذلك في قراره عدد 658 بتاريخ 30 ديسمبر 2000. فالسؤال المطروح لماذا نغيّب الجانب العلمي ونجمّد سيل الاجتهاد، فإذا كان اللعان قد شرّع في أوانه لانعدام الحجة، فالأمر قد حسم أمام هذه الدقة العلمية في إثبات النسب بواسطة الخبرة الجينية. حتى أن المجلس الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، ما بين5-10 /1/ 2002: قضى بأنه لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبــات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص؛ طبقا للحديث النبوي : "ادْرَؤوا الحُدُودَ بالشُّبُهاتِ". فذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.

ومن جهة ثانية فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض ذهبت في قرارها عدد 131 صادر بتاريخ 2014/1/29 ملف جنحي 2013/3/6/8691 إلى ما يلي:

اغتصاب - عنصر عدم الرضا - خبرة جينية - نطاقها في الإثبات

"لئن كان عنصر عدم الرضا يشكل الركن المادي المكون لجناية الاغتصاب، فإن إلغاء المحكمة للقرار الابتدائي القاضي بالبراءة وحكمها من جديد بالإدانة استنادا على الخبرة الجينية التي أفادت أن الطفل من صلب الفاعل خلافا لإنكاره المتواتر، يجعل ما انتهت إليه الخبرة مثبتا للعلاقة الجنسية ولا يعتبر دليلا أو حجة على استعمال العنف لجبر المشتكية على ممارسة العلاقة الجنسية معها".

خلاصة القول أن المحكمة لما ووجهت بدليل علمي قاطع على تورط الفاعل في جناية الاغتصاب، اعتبرت أن ذلك دليلا على وجود علاقة جنسية وليس اغتصاب. مع العلم أنه كان عليها أن تدينه من أجل الاغتصاب بدل الفساد، لأنه أنكر أية علاقة بالضحية لولا نتيجة الخبرة الجينية التي أثبتت أن الطفل هو من صلبه، فكان لابد هنا من إعمال القاعدة الفقهية التي تقول "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه منه، ومن تناقضت أقواله بطلت حجته، واليقين لا يزول بالشك.

لهذا لابد من أن نعيد النظر في هذه القوانين التي تجاوزها الركب العلمي ولم تعد تساير المجتمع في تطلعاته، ونقتدي بالتالي بعمل الدول التي قطعت أشواطا مهمة في مجال الكشف عن الجريمة والمجرمين بإعمال الطرق العلمية الحديثة والمتطورة وتسخير العلم في خدمة البشرية، والاعتراف بمؤسسة الشرطة العلمية والتقنية كجهاز رائد في مجال البحث والتحري. وهذا الأمر يدفعنا إلى وضع مقترحات علمية وعملية للوصول إلى هذا المبتغى، نجملها في ما يلي:

مقترحات عملية

- تعديل النصوص القانونية بما يتلاءم وتطور العلوم؛

- تجاوز العيوب الشكلية التي لا تؤثر في القضية؛

- توحيد الاجتهاد على مستوى محكمة النقض وإلزام المحاكم الدنيا الاقتداء به كأرضية للنظر في القضايا؛

- جعل الخبرة مسألة وجوبية في التحري والبحث؛

- ضرورة حضور الخبير لشرح تقريره والدفاع عنه

- ضرورة حضور ممثل النيابة العامة بمسرح الجريمة ؛

- إنشاء بنك للبصمة الجينية والقيس لتخزين المعلومات؛

- إجبار المشتكى به للخضوع للخبرة الجينية رغم اعتراضه؛

- معاقبة المشتكي في حال ثبوت سوء نيته في الاتهام؛

- رفع البصمة الجينية أثناء إنشاء البطاقة الوطنية؛

- جعل الخبرة الجينية حكرا على مؤسسات عمومية حفظا لحرمة الجسد؛

- إلزام المختبرات العمومية بتبادل المعلومات والأرشيف لضبط المنظومة؛

- تدعيم الخبرة بصورة فوتوغرافية لصاحبها درء للبس؛

- تعميم الشرطة التقنية والعلمية بكل مراكز الأمن في إطار الجهوية؛

- إعطاء الصفة الضبطية لكل موظفي الشرطة العلمية والتقنية؛

- الحرص أثناء الخبرة من عوامل التلوث والأخطاء البشرية

- الارتقاء بتقرير الخبرة أثناء البحث إلى وثيقة لا يطعن فيها إلا بالزور؛

- جعل الأمور العلمية من النظام العام التي تثار تلقائيا حتى من طرف المحكمة؛

- خلق شركات متخصصة في تنظيف مسرح الجريمة لجمع ما تبقى من وسائل الإثبات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
 
 

Posts récents

Voir tout

留言


  • facebook
  • twitter

© Abdelali El Misbahi.

bottom of page