إذا كانت كل الدراسات الفقهية والقانونية ترجع النشأة الحقيقية للنيابة العامة بمفهومها الحديث إلى القرن الرابع عشر, وبالضبط لتاريخ 23 مارس 1303 حيث تم النص على كلمة النيابة العامة في أول مرة في أمر {فليب لوبل} بفرنسا, فكانت بالتالي هذه الدولة مهد مؤسسة النيابة العامة وحقل نموها, وإن كانت الأستاذة ميشال لافر راسات وهي أستاذة بجامعة باريس, تقول أن هذه الوضعية الغريبة للنيابة العامة هي نتيجة لخطأ تاريخي لرجال الثورة الفرنسية الذين لم يفهموا آنذاك جسامة الخطأ الذي سيرتكبونه وأثره على التحولات السياسية التي أنجزوها عندما حددوا الوضع القانوني للنيابة العامة, وقرروا بأن ضباط النيابة العامة هم أعوان السلطة التنفيذية لدى المحاكم (الفصل 1 من الكتاب 8 من المرسوم 24-16 غشت 1790). إذ كان دافعهم في ذلك يرجع إلى أنه قبل الثورة, كان لهؤلاء الضباط «لقب أعوان الملك لدى المحاكم».
وقد أصبحت الدعوى العمومية من اختصاصها وحدها, وذلك لتمثيل المجتمع فيما يخص المتابعة وإقرار العقاب وتنفيذ العقوبة, كما كرست تبعيتها لوزير العدل كمؤسسة تطبق توجهاته وسياسته الجنائية التي تختلف باختلاف الحكومات. فكان من الطبيعي أن كل نظام أو دولة أخذت بنظام هذه المؤسسة, أن تتبع فرنسا في نموذجها الأصلي القاضي بتبعية النيابة العامة لسلطة وزير العدل, إلا أن التجربة العملية لكل نظام قضائي فرضت بعض التعديلات الطفيفة على هذا النظام انطلاقا من ثوابت كل أمة واختلاف ثقافاتها عن الأخرى, إذ نجد بعض الدول تجعل النيابة العامة تابعة قضائيا وإداريا لوزير العدل, وتكتفي أخرى بإقرار تبعيته الإدارية دون القضائية, وثالثة تجعلها مستقلة استقلالا تاما عنه لأنها جزء من السلطة القضائية, ولكنها ملزمة بتنفيذ سياسته الجنائية عبر تعليماته الكتابية الموجهة إليها, فبالرجوع إلى الآراء الفقهية حول طبيعة النيابة العامة, نجدها على الشكل التالي:
الرأي الأول: يذهب إلى أن النيابة العامة فرع من فروع السلطة القضائية لكونها تباشر الدعاوى ، وتقوم بعملية الإشراف على أعمال الضبط القضائي، وتقوم هي ذاتها بمباشرة سلطة الضبط القضائي والقيام ببعض إجراءات التحقيق الابتدائي وكذا التصرف فيه,
الرأي الثاني: يرى بأن النيابة العامة فرع من فروع السلطة التنفيذية
فهي حينما تقوم بمباشرة الدعاوى العمومية في مختلف الجرائم, تكون غايتها في ذلك وضع النصوص المنظمة موضع التنفيذ, كما أن السياسات العامة المتعلقة بالأبحاث والمتابعات هي من مسؤولية الحكومة وعلى الخصوص وزير العدل، والتي يجب أن تكون مراقبة من قبل البرلمان, وعلى وزير العدل انطلاقا من توجهات عامة أن يحدد للنيابة العامة الخطوط الموجهة للسياسة الجنائية، وأنه يتحمل المسؤولية السياسية لذلك أمام البرلمان, بينما تطبيق هذه الخطوط الموجهة يرجع إلى النيابة العامة التي أعطاها القانون مهمة تحريك المتابعات, بينما وزير العدل يراقب حسن تطبيق تلك التوجهات.
الرأي الثالث : يجمع بين الرأيين السابقين، حيث يعتبر النيابة العامة هيئة قضائية وتنفيذية في آن واحد. ومرد ذلك أن لها اختصاصات قضائية وأخرى تنفيذية, فهي هيئة تنفيذية في تنفيذها للأحكام والأوامر القضائية ومحاربة الجريمة ومراقبة مدى تطبيق القوانين. وهي هيئة قضائية في إجراءها للبحث القضائي واستنطاق المشتبه فيه وإعطاء النازلة تكييفا قانونيا, والحسم في الدعاوى الجنائية بالحفظ أو التخلي والقول بسقوطها بالتقادم والسعي نحو الصلح والإشهاد على التنازل بين المتقاضين.
الرأي الرابع : يعتبر النيابة العامة هيئة إجرائية مهمتها مباشرة الدعوى العمومية نيابة عن المجتمع والمطالبة بتطبيق القانون.
ونظرا للدور الطلائعي الذي تلعبه هذه المؤسسة في إقامة العدل والسهر على مكافحة الجريمة, فقد اعتمد مؤتمر الأمم المتحدة الثامن حول منع الجريمة ومعاملة المجرمين, المنعقد في هافانا ما بين غشت وسبتمبر لسنة 1990 مبادئ توجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة, همت مؤهلاتهم وشروط اختيارهم وضرورة خضوعهم لتدارب مكثفة وتوفير مناخ عمل يحفز على العطاء, ومن بين هذه المبادئ نجد: - ينبغي لأعضاء النيابة العامة، بوصفهم أطرافا أساسيين في مجال إقامة العدل، الحفاظ دوما على شرف مهنتهم وكرامتها؛
- تكفل الدول تمكين أعضاء النيابة العامة من أداء وظائفهم المهنية دون ترهيب أو تعويق أو مضايقة أو تدخل غير لائق، ودون التعرض، بلا مبرر، للمسؤولية المدنية أو الجنائية أو غير ذلك من المسؤوليات؛
- تحدد، بموجب القانون أو بموجب قواعد أو لوائح منشورة، شروط لائقة لخدمة أعضاء النيابة العامة وحصولهم على أجر كاف؛
- لأعضاء النيابة العامة، شأنهم شأن غيرهم من المواطنين، الحق في حرية التعبير والانضمام للرابطات وعقد الاجتماعات. ويحق لهم، بصفة خاصة، المشاركة في المناقشات العامة للأمور المتصلة بالقانون وإقامة العدل، وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها؛
- يؤدي أعضاء النيابة العامة دورا فعالا في الإجراءات الجنائية، بدء بالملاحقة القضائية، والاضطلاع ضمن ما يسمح به القانون أو يتمشى مع الممارسة المحلية، بالتحقيق في الجرائم والإشراف على قانونية التحقيقات، والإشراف على تنفيذ قرارات المحاكم، وممارسة مهامهم الأخرى باعتبارهم ممثلين للصالح العام؛
ويبقى هذا الاهتمام الزائد وهذا الحرس على حماية هذه المؤسسة وأعضائها, يرتكز في مقوماته على أنه إذا كان القاضي مثلا في المغرب يستمد مشروعية منصبه من أمير المؤمنين, لأن القضاء من مهام الإمامة, فهو في ممارسة هذه الوظيفة بتفويض مشروع من أمير المؤمنين, فإنه يستمد الشرعية في البث في القضايا من المجتمع, والنيابة العامة هي ممثلة المجتمع والمدافعة عن حقوقه, والضامنة لمبدئ تخلي المجتمع عن الدفاع عن حقه, مقابل ضمان الحق في الحياة والحرية والأمن, وذلك في إطار العقد الاجتماعي الذي سبق أن وقعت عليه كل الشعوب للعيش في مجتمع حضاري تسوده الدمقراطية.
وقد استقر الرأي الفقهي ورأي المتمرسين في مجال النيابة العامة, على ضرورة استقلال هذه الأخيرة عن كل جهة أو سلطة, وذلك للاعتبارات التالية:
- النيابة العامة باعتبارها جزء من السلطة القضائية, تنبع أهمية استقلاليتها من كون أعضاءها ينوبون عن المجتمع في إرساء مبادئ العدالة الجنائية, لأن إقامة العدل أحد الأسس الرئيسية التي يقوم عليها عمل النيابة العامة؛
- ينبغي أن يكون لأعضاء النيابة العامة القدر الكافي من الاستقلالية التي تضمن قيامهم بأعمالهم دون ضغوط أو تدخلات من أية جهة كانت فإحقاق الحق والوصول إلي معرفة الحقيقية وإقامة العدل هو جوهر عملهم؛
- تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية فيه مساس بالثقة التي يضعها الأفراد في نزاهة وحيادية هذا الجهاز الذي يعد المرحلة الأساسية من مراحل الدعوي الجنائية خاصة تلك المرتبطة بحريات الناس؛
- تلعب استقلالية النيابة العامة دورا مؤثرا في استقلال أعضائها من التأثير السياسي، ويعزز هذا الاستقلال استقلالها المالي؛
ونسرد بعض الأنظمة القضائية في بعض الدول لإجراء نوع من المقاربة القانونية ورصد أوجه التشابه والاختلاف, فمثلا:
الكويت
أنشئت النيابة العامة كشعبة أصيلة من شعب السلطة القضائية
بمقتضى قانون 1960 الذي غير بمرسوم القانون رقم 23 لسنة 1990, وجاء بالمذكرة التفسيرية لهذا القانون أن النائب العام يقوم على رأس النيابة العامة " وهو شخصية من أكبر الشخصيات القضائية وأعظمها خطرا ، ولا يعلو عليه في المرتبة غير رئيس محكمة الاستئناف العليا. وقد عدلت بعض مواد قانون تنظيم القضاء, بموجب القانون رقم 10 لسنة 1996, إذ أكد هذا القانون الأخير كسابقه على استقلال النيابة العامة وكونها شعبة أصيلة من شعب السلطة القضائية, كما نصت المادة ( 26) منه على عضوية النائب العام بالمجلس الأعلى للقضاء، ونصت مواد الباب الرابع من 53 إلى 66 على اختصاصات النيابة العامة وتشكيلها وتعيين أعضائها وترقياتهم وضمانات تأديبهم. ومن أهم مواد هذا القانون نص المادة 60 التي تنص على أن " أعضاء النيابة العامة يتبعون النائب العام، ويتبع النائب العام وزير العدل، وذلك فيما عدا الاختصاص المتعلق بأي شأن من شؤون الدعوى الجزائية، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بتحريك هذه الدعوى ومباشرتها وتحقيقها والتصرف والادعاء فيها.
اليمن
اعتبر قانون السلطة القضائية اليمني لسنة 1991 النيابة العامة جزء من السلطة القضائية, ويقوم رئيس الدولة بتعيين أعضاءها بناء على ترشيح وزير العدل وأخذ رأي النائب العام وموافقة مجلس القضاء الأعلى, عدا مساعدي النيابة العامة فيكون تعيينهم بقرار لوزير العدل بناء على ترشيح النائب العام, أما النائب العام والمحامي العام الأول فيعينان من طر ف رئيس الدولة. تتكون النيابة العامة حسب المادة 4 من مكتب النائب العام وتتبعه إدارة التفتيش وإدارة النيابة ونيابة الاستئناف ونيابة المحافظة والنيابة الجزئية, ويبقى النائب العام هو قمة جهاز النيابة العامة, تنشأ نيابة النقض بقرار النائب العام ويرأسها محامي عام وهي مستقلة قضائيا عن النيابة العامة,
مجلس القضاء الأعلى هو السلطة الإدارية العليا المختصة بشؤون السلطة القضائية في اليمن, مع احتفاظ وزارة العدل بالسلطة الإدارية على القضاء، هذا بالإضافة إلى أن أعضاء النيابة العامة هم تابعون إلى رؤساءهم ثم إلى وزير العدل، ويتكون مجلس القضاء الأعلى من وزير العدل ونائبه، والنائب العام، ورئيس التفتيش القضائي، ورئيس المحكمة العليا، ونائب رئيس المحكمة العليا، وثلاثة من كبار القضاة. وبالمقابل، يقوم وزير العدل بتعيين نائبه، ويلعب دورا حاسما في تعيين كبار القضاة الثلاثة الأعضاء.
موريطانيا
يتبع كافة القضاة إداريا لوزير العدل, ويتم تعيينهم في وظائفهم بموجب مقرر يصدر عنه، وهم يخضعون لتوجيه ورقابة رؤسائهم ولسلطته,إذ أن كافة القضاة هم موضوع استمارة تقييم فردية يتم تعبئتها من طرف رؤساء مجالسهم التأديبية سنويا وتحال على الوزير لتشكل أساسا لاعتماد ترقيتهم من طرفهم.
لبنان
يخضع أعضاء النيابة العامة إداريًا لسلطة وزير العدل لكنهم يستقلون قضائيًا عنه. وقد ألغيت في لبنان المادة 33 من المرسوم الإشتراعي رقم 8 فيما كانت تنص عليه من أنه يحق لوزير العدل أن يوجه النيابة العامة بتعليمات خطيه وعليها أن تتقيد بها، وحلت محلها المادة الثالثة من قانون القضاء العدلي التي تبدو أقل تأكيدا لسلطة وزير العدل وتكاد تحصرها في الإدارة والمراقبة.
البحرين
إن تبعية أعضاء النيابة العامة لوزير العدل هي تبعية إدارية فقط وليست قضائية وأن دور وزير العدل بالنسبة إلى السلطة القضائية عموما وبالنسبة إلى النيابة العامة خصوصا هو دور سياسي تنفيذي. والنيابة العامة هي شعبة أصيلة من شعب السلطة القضائية, ويجب التفريق بين نوعين من الإشراف: «الإشراف الإداري من ناحية، والإشراف القضائي من ناحية أخرى. فالإشراف الإداري هو الذي عناه المشرع في قانون السلطة القضائية, والإشراف القضائي الذي يظل قاصرا على أعضاء النيابة العامة, إذ لا يجوز لوزير العدل أن يتدخل في أي شأن من شؤون الأعمال القضائية للنيابة العامة, كأن يأمر أحد أعضاء النيابة العامة مثلا بالتصرف في الدعوى الجنائية بصورة معينة، فتبعية أعضاء النيابة العامة لوزير العدل هي تبعية إدارية فقط, وليست قضائية ومن ثم فهي لا تخل باستقلال القضاء».
الأردن
النائب العام أو المدعي العام, فهو رأس الهرم في جهاز النيابة العامة
والنائب العام غالبًا ما يكون رجلا بدرجة وزير وعضو في المجلس الأعلى للقضاء ، وتكون مسؤوليته الوظيفية أمام رئيس الدولة مباشرة وليس أمام وزير العدل، فمنصب النائب العام منصب قضائي بحت كونه عضو في السلطة القضائية, ولا يتصل أو يتبع وزير العدل الذي هو عضو في السلطة التنفيذية إعمالا للمبدأ الدستوري المعروف مبدأ الفصل بين السلطات. ويتبع النائب العام جهاز كامل يسمى النيابة العامة وهي شعبة من شعب القضاء -وليست إدارة تتبع وزارة العدل- وهذا الجهاز مكون من محامين عموم ورؤساء نيابة ووكلاء نيابة ومساعدين ومعاونين، وجميعهم يمارسون وظائف قضائية وإدارية متصلة بجهاز النيابة العامة،
ويبقى المدعي العام هو رئيس الضابطة العدلية في منطقته ، ويخضع لمراقبته جميع موظفي الضابطة العدلية. أعضاء النيابة العامة ملزمون في معاملاتهم ومطالبهم الخطية بإتباع الأوامر الخطية الصادرة إليهم من رؤسائهم أو من وزير العدل, كما أنهم في مجال إقامة الدعاوي مكلفون بتنفيذ أوامر وتعليمات, ليس فقط النائب العام بل أيضًا وزير العدل وهو الأمر الذي يوسع من مفهوم التدرج الرئاسي ويثير التساؤل حول إدخال وزير العدل ضمن حلقات هذا التدرج.
مصر
أعضاء النيابة العامة يتبعون رؤسائهم والنائب العام وهم جميعا يتبعون وزير العدل الذي يملك حق الرقابة والإشراف علي النيابة العامة في الأعمال الإدارية دون القضائية. ولوزير العدل والنائب العام توجيه تنبيه لأعضاء النيابة العامة الذين يخلون بواجباﺗﻬم إخلالا بسيطا.
السعودية
عرف الادعاء العام بالسعودية مرحلتين مرحلة التبعية للسلطة التنفيذية حيث كان ممثلا من طرف ضباط الشرطة, ثم المرحلة الحالية حيث أصبح مستقلا بذاته ولا يخضع لأي سلطة, اللهم ارتباطه بوزير الداخلية في إطار تطبيق السياسة الجنائية, ذلك أن هيئة التحقيق والادعاء العام تابعة لوزارة الداخلية وليست تابعة للجهات القضائية، إذ العبرة بنوع الأعمال التي تباشرها وموضوع القرارات التي تصدرها. فهي ترتبط بوزير الداخلية الذي له حق الإشراف عليها إداريا، دون التدخل في أعمالها، التي تأخذ حكم الاستقلال التام بقوة النظام, فالادعاء العام في المملكة العربية السعودية يبقى مستقلا حسب رأيهم, ولا ينال من قيام هذا الاستقلال أن هذه الهيئة ترتبط بوزير الداخلية وهو أحد أعضاء السلطة التنفيذية ,فالارتباط بالنسبة لهم لا يعني الخضوع , وإنما يعني المتابعة والإشراف.
إيطاليا
النيابة العامة في هذا البلد مستقلة بامتياز، إذ يوجد على رأس الهرم الإداري للنيابة العامة الوكيل العام للجمهورية الذي يعيـِّنه رئيس الجمهورية, وأعضاء النيابة العامة مستقلون في قراراتهم بحيث لا توجد سلطة تسلسلية، ذلك أن كل عضو يشكل هيئة مستقلة. أما الرؤساء فهم مجرد منسقين، يتمتع أعضاء النيابة العامة بنفس الحصانة التي يتمتع بها قضاة الحكم، كما أن القانون يسمح بالانتقال من قضاء الحكم إلى النيابة العامة والعكس، أضف أن فترة الستينيات والثمانينيات عرفت إصلاحات زادت من قوة هذه الاستقلالية وخلقت ما اصطلح على تسميته بـ» (حكومة ذاتية للقضاة).
بعد عرض بعض نماذج أنظمة النيابة العامة بمختلف الدول, وتسليط الضوء على مسألة التبعية لوزير العدل أو لجهة أخرى, ومسألة التدرج والتسلسل الإداري, ومسألة الاستقلال التام أو النسبي.
- لابد من طرح التساؤل التالي أي تنظيم قضائي نريد للنيابة العامة؟
لأن التجربتين العلمية والعملية أثبتتا أن الوظيفة هي التي تخلق المنصب أو المؤسسة, فلابد من تحديد الوظائف مسبقا لخلق مؤسسة مهيكلة بطريقة تتماشى وتخدم وتلبي مطالب الوظيفة, أو كما يصطلح عليه خلق مؤسسة على مقاس الوظيفة. فإذا أخذنا المغرب كنموذج للدراسة والتحليل, فإن وظيفة القضاء الواقف تتجلى في اختصاصات متعددة:
نذكر منها بشكل موسع ودون تخصيص النقط التالية:
1- إقامة وممارسة الدعوى العمومية وذلك ب:
- تلقي الشكايات والوشايات واتخاذ الملائم بشأنها م 40 ق م ج؛
- البحث أو الأمر بالبحث عن المجرمين ومتابعتهم م 40 ق م ج؛
- إصدار أوامر دولية بالبحث وإلقاء القبض م 40 ق م ج؛
- الإحالة على هيئات التحقيق والحكم م 40 ق م ج؛
- الأمر بالحفظ بمقرر يمكن التراجع عنه م 40 ق م ج؛
- تقديم ملتمسات بقصد إجراء تحقيق م40 ق م ج؛
- المطالبة بتطبيق القانون واستعمال وسائل الطعن م40 ق م ج؛
- السهر على تنفيذ الأوامر والمقررات القضائية م 40 ق م ج؛
- سحب جواز السفر وإغلاق الحدود م 40 ق م ج؛
- تضمين الصلح في محضر بطلب من أحد الطرفين م 41 ق م ج؛
- اقتراح الصلح مقابل غرامة أو إصلاح الضرر م41 و 375ق م ج؛
- تسخير القوة العمومية مباشرة م 49 ق م ج؛
- التماس إيقاف سير الدعوى العمومية م372 و 461 ق م ج
2- الإشراف على عمل الضابطة القضائية وذلك ب:
- تنقيط ضباط الشرطة القضائية نهاية السنة م 45 ق م ج؛
- السهر على احترام تدابير الحراسة النظرية والتدابير الكفيلة بأنسنة ظروف الاعتقال م 45 ق م ج؛
- اتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بوضع حد للإخلالات و رفع تقرير بذلك لوزير العدل م 45 ق م ج؛
- الاطلاع والتوقيع على سجل الحراسة النظرية ودفتر التصريحات م 45 و68 ق م ج؛
- إعطاء الإذن الكتابي في عدد من الإجراءات؛
- الأمر بإجراء فحص طبي على المشتبه فيه كلما طلب ذلك أو عوينت آثار تبرر ذلك م 73 ق م ج؛
- تسيير العمليات الناشئة عن تعليماته الموجهة للضابطة القضائية
م 78 ق م ج؛
- القيام بحماية الشهود بالاستماع إليهم مباشرة أو إخفاء هويتهم أو إعطاءهم هوية مستعارة وتوفير حماية جسدية لهم م 7-82 ق م ج؛
- التماس إصدار الأمر بالتقاط المكالمات الهاتفية م 108 ق م ج؛
3- الإشراف على سير النيابة العامة وذلك ب:
- انتداب أحد النواب أو أحد القضاة لسد الفراغ مع إشعار وزير العدل فورا بهذا الإجراء م 46 ق م ج؛
- يمارس الوكيل العام للملك سلطته على جميع قضاة النيابة العامة التابعين لدائرة نفوذه م 49 ق م ج؛
- يوجه الوكيل العام للملك نسخة من القرار المطعون فيه بالنقض من أجل خرق إجراءات مسطرية لوزير العدل م 556 ق م ج؛
4- السهر على تطبيق القانون وذلك ب:
- يتولى الوكيل العام للملك السهر على تطبيق القانون الجنائي في مجموع دائرة نفوذ محكمة الاستئناف م 49 ق م ج؛
- يحق لوكيل الملك وحده إقامة الدعوى العمومية في حق حدث م 463
- يقدم طلبات النقض لفائدة القانون م 558 ق م ج وما بعده؛
5- تنفيذ السياسة الجنائية وذلك ب:
- تنفيذ السياسة الجنائية المبلغة إليه من وزير العدل م 51 ق م ج؛
- ينفذ أوامر وزير العدل الكتابية ويبلغها للمحكمة م 51 ق م ج؛
- يمنح الوكيل العام للملك الإذن بالتسليم المراقب م 2-82 ق م ج؛
- يقدم الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ملتمسا إليها لأجل الإحالة من أجل الأمن العمومي م 272 ق م ج؛
- الاستماع لأعضاء الحكومة كشهود بإذن من المجلس الوزاري إثر تقرير يقدمه وزير العدل م326 ق م ج؛
- يقوم الوكيل العام للملك بطلب معلومات حول أموال يشتبه أن لها علاقة بتمويل الإرهاب, ويتخذ بشأنها ما يلزم قانونا م 595-1 م ج؛
6 – التدخل الإجباري أو الاختياري بمقتضى نصوص خاصة:
إذ تتدخل النيابة العامة في عدد من الميادين والقضايا المرتبطة بها, إما تلقائيا أو بمجرد تقديم شكاية لها من الجهة ذات الامتياز في تحريك الدعوى العمومية, أو حماية منها لمصلحة عمومية, فيكون تدخلها هذا مقننا ومحددا بمقتضى فصول, تسطر مسبقا دور النيابة العامة في هذه القوانين, ومن هنا قد نرى في بعض القوانين حضورا قويا لوزير العدل, إما كجهة مختصة بالتتبع أو بتحريك المتابعة أو بإعطاء التعليمات أو الإذن أو الترخيص أو الإفراج, وغيرها من الإجراءات التي تبقى لصيقة بالعمل القضائي وخصوصا عمل النيابة العامة.
استقلال النيابة العامة ضرورة حتمية أملاها الواقع الديمقراطي بالمغرب
لقد كثر الحديث عن تبعية واستقلال النيابة العامة, هذا الجهاز الذي شغل بال المفكرين ورجالات القانون المنظّرين منهم والممارسين, حول الإطار القانوني والهيكل التنظيمي الذي يمكن أن تشتغل فيه, دون المس باستقلالها وبالتالي المس باستقلال القضاء, باعتبارها جزء لا يتجزأ منه. فالتجربة العملية لكل نظام قضائي أملت بعض التعديلات الطفيفة على هذا الجهاز, انطلاقا من مرجعية كل أمة ونظام حكمها واختلاف ثقافاتها عن الأخرى, إذ نجد بعض الدول تجعل النيابة العامة تابعة قضائيا وإداريا لوزير العدل, وتكتفي أخرى بإقرار تبعيته الإدارية دون القضائية, وثالثة تجعلها مستقلة استقلالا تاما عنه, لأنها جزء من السلطة القضائية, مع التزامها بتنفيذ سياسته الجنائية عبر تعليماته الكتابية الموجهة إليها. لكن هذا الجدل المتواتر حسم في بلدنا, بمجرد صدور الدستور الجديد الذي جاء صريحا فيما يخص استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية- علما أن النيابة العامة بطبيعة الحال هي شطر القضاء- كما عزز الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة هذا الطرح, من خلال ميثاقه الذي جاء ليبلور إرادة هيئة توافقية تعكس في تشكيلتها مكونات المجتمع المغربي, لتعطي رئاسة النيابة العامة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته هاته. لهذا أضحى من الضروري تفعيل هذه الفصول والمقترحات التي تقّر هذا الاستقلال بشكل يخدم مبدأ استقلال القضاء وميثاق إصلاح منظومة العدالة, التي تطالب بتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة في إطار استراتيجية حكيمة ومشروعة, حتى لا تبقى هذه المكاسب حبرا على ورق أو مجرد مقتضيات غير مفعلة.
ودون الدخول في سجال حول مدى إسناد هذه المهام الجديدة وتمركزها في قبضة رئيس النيابة العامة, مع ما يمكن أن يثار من أن الأمر قد يفضي إلى استقواء أو شطط أو استعمال صلاحيات في غير مكانها, فإن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد انتقال مهام من يد وزير العدل إلى يد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض, مع ما يترتب عن ذلك من مسؤولية ومساءلة طبقا للقانون, أضف أن انتقال هذه المهام إلى جهة مستقلة ومحايدة, ليس لها ميول سياسي أو حزبي, ولا تشتغل تحث إمرة مجلس وزاري أو حكومي, سيجعل من تدبير هذه المهام والوظائف, عنوانا للاستقلالية وطريقا لتحقيق العدالة, علما أن مؤسسة رئيس النيابة العامة, عليها - وكما هو عليه الأمر بالنسبة لجميع المؤسسات الدستورية - رقابة من عدد من الجهات والهيئات المشكلة بمقتضى القانون, وعلى رأسها الدستور الذي جعل قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان بمقتضاه(الفصل 23), وهذه هي أسمى صور العدالة الحقة والديمقراطية العادلة.
فماهي هذه الجهات والمؤسسات المخول لها مراقبة أعمال الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض, بصفته رئيسا للنيابة العامة؟
وما هي الضمانات الواجب توافرها لتحقيق حياد هذا الجهاز واشتغاله في إطار قانوني لا يتأثر بميولات شخصية أو مصلحية؟
بالرجوع إلى الترسانة القانونية التي يزخر بها المغرب, والتي تشكل سلسلة مترابطة من الحقوق والواجبات, يتبين جليا أن هناك عددا من الضمانات القانونية والسياسية, وضمانات واقعية أخرى أحدثت مع هذه المستجدات الأخيرة ومنها مثلا مقتضيات الميثاق الحالي, مما لا يدع أدنى تخوف أو ارتياب للقلة التي تزعم أن الجمع بين هذه الاختصاصات, من شأنه استقواء رئيس هذه المؤسسة, وإفراطه في ممارسة اختصاصاته دونما رقابة قبلية أو محاسبة بعدية.
- الدستور: يبقى الدستور بمثابة أسمى قانون يمتثل له جميع المغاربة, لما فيه من مبادئ أساسية تبين حقوقهم وتحدد واجباتهم, وترسخ ثوابت الأمة ومرجعية البلد, مما يجعل من خرق مقتضياته سبيلا للمساءلة والعقاب.
ففي فصله الأول حينما أقر بفصل السلط، ربط المسؤولية بالمساءلة, أي أن كل نفود متبوع بالمحاسبة. وأكد في فصله السادس أن الجميع بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمام القانون، وملزمون بالامتثال له, وهذا يعني ألا أحد يسمو فوق القانون.
كما نص في الفصل 23 على أن أي اعتقال تعسفي يعرض مقترفه لأقسى العقوبات. فلا مجال للاختباء وراء التعليمات العليا لتبرير اللامشروع.
وقضى الفصل 37 بأنه على جميع المواطنين والمواطنات احترام الدستور والتقيد بالقانون، ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات, وفي هذا يتساوى الآمر والمأمور, فكما لك عليك, وحريتك تنتهي عند بداية حرية الآخر.
وفي الفصل 109 منع المشرع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء; وأن القاضي لا يتلقى أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط. وأن كل إخلال من طرفه بواجب الاستقلال والتجرد يعد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية, وأن القانون يعاقب كل من حاول التأثير عليه, فاستقلال القضاء حق مبدئي والحفاظ عليه واجب وظيفي والمس به جريمة. فممّا الخوف إذن, إذا كانت هذه المبادئ قد صوت عليها كل المغاربة بإجماع, وآمنوا بمصداقيتها وفعاليتها في بناء دولة الحق والقانون.
وفي الفصل 110 لما ألزم قضاة النيابة العامة بالالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها, أسبقها بجملة وجوب تطبيقهم للقانون, ليبقى هو ميزان العدالة بين التعليمات والشطط. فأمام وجود تعارض بين استقلال القضاء وتبعية قضاة النيابة العامة لرؤسائهم الأعليين, لا يمكن أن تكون هذه التبعية إلا لعضو من جسم القضاء نفسه, حفاظا على هذه الاستقلالية المقرونة بالتبعية في التأطير والتنظير لا في التحكم في المصير.
وفي الفصل 113 فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة, ولا سيما فيما يخص استقلالهم(فلا يحق لأي رئيس ولا مرؤوس أن يتجاوز في مهامه خط هذا الاستقلال تحث أي ذريعة).
وفي الفصل122 يحق لكل من تضرر من خطإ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة. مما يؤكد التزام الدولة وحرصها على حماية الحقوق وترسيخ دولة الحق والقانون, بما في ذلك الرجوع على المتسبب في الخطأ.
فمن خلال هذه الإطلالة على بعض فصول الدستور يتبين أن المغرب والحمد لله قطع أي حبل وصال مع الشطط في استعمال السلطة, أو استغلال نفوذ في غير ما جعل له, أو التأثير على تابع لتحقيق غرض شخصي, فجعل لكل مؤسسة رقيبا عليها, ورسخ بحق لمبادئ الديمقراطية الحقة, والحكامة الجيدة وذلك بربط المسؤولية بالمحاسبة, وتحديد سلطة المنصب في مهام الوظيفة.
-الملك : تلعب المؤسسة الملكية دورا استراتيجيا في تدعيم أسس الدولة, لما لجلالته من صلاحيات ومهام تجعل منه الضامن لحسن سير السلطات و المؤسسات. فبصفته أميرا للمؤمنين طبقا للفصل 41 من الدستور, ورئيسا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية طبقا للفصل 56 و 115, فإنه يعين قضاة المملكة بظهائر ويفوض لهم بالتالي مهام الفصل بين الناس, وذلك لأن القضاء من مهام الإمارة, والقضاة يمارسون هذه الوظيفة بتوكيل من أمير المؤمنين, لهذا نجد الجلسات تفتتح باسمه والأحكام تصدر وتنفذ باسمه, وممثلو النيابة العامة يسمون بوكلاء الملك نسبة لما وكّلوا من أجله, وهذا ما جاء به الفصل41 (يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر). فتربعه على قمة السلطة القضائية يجعل منه الحكم الأسمى بين المؤسسات والضامن لحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات, وذلك طبقا للفصل 42 من الدستور, زد على أن الاعتقاد الديني الراسخ لدى المغاربة, في باب البيعة والإمارة وطاعة الأمير, خلق ارتباطا والتحاما بينهم وبين ملكهم, إيمانا منهم بقوله جل وعلى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) سورة النساء. وحديث نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).إن المهام الشرعية للملك والمنبثقة من الدستور, تجعله يلعب دورا فعالا وفاعلا في خلق توازن بين السلط الثلاث, من خلال ترأسه و مراقبته لأعمالها, فيكون بذلك الملجأ في التحكيم, والمرجعية في التصور, والآمر في التطبيق, والرقيب في التسيير, والضامن للمبادئ. وشاهدنا هنا الخطاب التاريخي لجلالة الملك محمد السادس حول إصلاح القضاء بتاريخ 20 غشت 2009, والذي جاء فيه :
وفي نفس الإطار، يجدر مراجعة النظام الأساسي للقضاة، في اتجاه تعزيز الاحترافية، والمسؤولية والتجرد، ودينامية الترقية المهنية، مقتطف من الخطاب الملكي السامي.
-الحكومة: تتوفر الحكومة على عدد من الآليات والاختصاصات القانونية التي تخول لها الحق في بسط رقابتها المشروعة على كل المؤسسات, فهي تعمل على الوقاية طبقا للقانون من كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية طبقا للفصل 36 من الدستور, وفي هذا ضمان لكل مواطن من أي عمل تحكمي صادر عن الإدارة, وتتداول الحكومة بالمجلس الوزاري في قضايا التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة (ومنها السياسة الجنائية التي يعدها الوكيل العام للملك ووزير العدل), ومشاريع القوانين التنظيمية (ومنها قانون المجلس أ س ق), ومشاريع القوانين طبقا الفصل49(ومنها أي قانون له علاقة بالقضاء). وتتداول في المجلس الحكومي في السياسات العمومية والسياسات القطاعية والقضايا الراهنة المرتبطة بحقوق الإنسان وبالنظام العام (ومنها كل ما من شأنه المس مثلا بحريات وحقوق المواطنين أثناء التقاضي), ومراسيم القوانين ومشاريع المراسيم التنظيمية ومشاريع القوانين طبقا للفصل 92, أي أن رقابتها مستمرة وشاملة لكل الميادين, وذلك في إطار شرعية دستورية, لا يتصور معها استمرار حالة من حالات الشطط أو التعسف في استعمال الحق أو استغلال النفوذ وما دونها من الأمور التي تستوجب التدخل العاجل والمباشر, لوضع حد لما من شأنه زعزعة الثقة بين الدولة ككيان والمواطن.
-البرلمان : إن البرلمان بحق هو لسان المواطن وعينه الساهرة على مدى نجاعة تسيير دواليب الدولة, لهذا خصه المشرع بالحق في تشكيل لجان نيابية لتقصي الحقائق(الفصل 67), مالم تكن هناك متابعة قضائية, وله عقد اجتماعات مشتركة للاستماع للبيانات ذات الطابع الوطني (الفصل 68), والتي قد يكون من بينها وجود خلل أو تعسف في تسيير مؤسسة عمومية تابعة لأي سلطة من السلط الثلاث, كما للبرلمان حق التشريع في مجال حقوق والحريات الأساسية(الفصل 71), وفي هذا تدارك لكل إجراء مسطري قضائي يتعارض وهذه الحقوق, كما يتداول السياسات العمومية(الفصل 92), ومن بينها السياسة الجنائية, التي تبقى بمثابة خارطة طريق النيابة العامة, والسكة الحديدية التي يسير عليها عمل هذه المؤسسة لمكافحة كل أشكال الجريمة, المرتكبة أو المحتمل ارتكابها من طرف أي شخص أو جهة.
- هيئة التشاور للوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك: طبقا لروح الدستور في مقتضياته المنصوص عليها في المادة 13 والتي تحث السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها, فإنه يمكن للسلطة القضائية كذلك إحداث هيئة للتشاور تضم وكلاء الملك والوكلاء العامين للملك يرأسها الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض, لها تسعة فروع جهوية, يرأس كل فرع محام عام, تجتمع بطلب من الرئيس أو بطلب من ثلث أعضائها, يكون من مهامها:
-توحيد عمل النيابة العامة فيما يخص التكييف والملاءمة,
-تطبيق توجهات السياسة الجنائية على مستوى النيابات العامة,
- التأسيس لمدونة سلوك ووظائف النيابة العامة؛
-مناقشة الحالات الشاذة وإيجاد حلول لها على ضوء الاجتهادات القضائية,
-إعداد مشاريع قوانين كلما طلب منها ذلك طبقا للمادة 113 من الدستور,
-دراسة وتحليل تقارير المجلس الأعلى للأمن,
-دراسة عرائض ومقترحات المواطنين في مجال التشريع الجنائي, ورفع تقرير بها للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أو للجهة الطالبة,
-مناقشة التظلمات المقدمة ضد أحد أعضاء الهيئة بما فيهم الرئيس, مع عدم حضور المعني بالأمر للمناقشة, ويرفع تقرير بشأنها للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
-المجلس الأعلى للسلطة القضائية: إن تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية, جعلت منه مجتمعا مصغرا بكل المقاييس, إذ يرأسه الملك ويضم أعلى منصب في القضاء الجالس, وأعلى منصب في قضاء النيابة العامة, ومنتخبون عن القضاة, وأعضاء يمثلون مختلف الهيئات الاجتماعية ذات الاهتمام المشترك, وآخرون يعينون بسبب الكفاءة والتجرد والنزاهة، والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون, وعضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى حتى لا يغيب الجانب الديني الذي يبقى من ثوابت الأمة, فتبسط هذه الهيئة -المشكلة من كل فعاليات الدولة- رقابتها على الشأن القضائي, وكأن المجتمع بأكمله يواكب بنفسه هذه المهمة, وهذا ما يجعل من هذا المجلس مؤهلا للبث في كل الأمور المتعلقة بجميع القضاة على اختلاف مناصبهم ومهامهم, إذ لا تؤثر عضوية أحد القضاة به -سلبا أو إيجابيا- في حالته المعروضة على ذات المجلس, وهذا ليس بالإجراء الجديد أو الاستثنائي على المؤسسات الدستورية بالمغرب, فهناك مجلس النواب مثلا الذي من حقه البث بواسطة لجنة الحصانة البرلمانية في طلبات رفع الحصانة أو الاعتقال الموجهة ضد أحد أعضاءه(المادة 85 من النظام الداخلي لمجلس النواب).
-القضاء الإداري والمحكمة الدستورية: تبقى المحاكم هي ملجأ كل مظلوم وضالة كل متظلم أو مدعي حق أو طالب إنصاف, وذلك لأن مهمتها بكل بساطة, هي تطبيق القانون وتحقيق العدالة, وهكذا فإن الفصل114 من الدستور نص على أنه تكون المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية، الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة، أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة. فإذا كانت المحكمة الدستورية تراقب القوانين فإن المحكمة الإدارية تراقب القرارات.
-الجمعيات المهنية: إذا كفل القانون لكل مواطن حرية الفكر والرأي والتعبير بجميع أشكالها, فقد أعطى للقاضي بهذه الصفة الحق في حرية التعبير, والحق في الانتماء إلى جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية(الفصل 111). فمن خلال هذه الجمعيات المهنية أصبح للقضاة منبر إعلامي يوصلون من خلاله أفكارهم ومطالبهم, ويتواصلون بواسطته مع باقي مكونات المجتمع, فتنفرج الرؤيا ويلوح أفق التشاور ويغرب التعتيم وتنقشع الشفافية, فإلى يوما هذا نعد أكثر من عشر جمعيات مهنية مهتمة بشؤون القضاء والعدالة, مما يضفي الطمأنينة على الشأن القضائي بهذا البلد, لأن أمرهم شورى بينهم, واختلافهم رحمة لا يفسد للود قضية.
-المجتمع المدني: جاء المشرع المغربي بتصور جديد في دستوره الحالي يرتكز فيه على المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يسوده الأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة. لهذا مكن المواطنين في إطار ديمقراطية تشاركية, من إعداد قرارات ومشاريع وتفعيلها وتقييمها, عبر جمعيات مهتمة بقضايا الشأن العام ومنظمات غير حكومية وهيئات للتشاور(الفصل 12 و13), كما مكنهم من المشاركة التخليق والحكامة وبسط رقابتهم على المؤسسات العمومية, من خلال مؤسسات دستورية أحدثت لذات الغرض, منها مثلا:
· المجلس الوطني لحقوق الإنسان(الفصل 161)؛
· الوسيط( الفصل 162)؛
· هيئة المناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز( الفصل 19 و164)؛
· مجلس الجالية المغربية بالخارج(الفصل 163) والذي من مهامه حماية وضمان حقوقهم وصيانة مصالحهم؛
· الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري(الفصل 165) الذي يسهر على احترام التعبير والحق في المعلومة؛
· مجلس المنافسة(الفصل 166) الذي يسهر على تنظيم منافسة حرة ومشروعة؛
· الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها(الفصل 36 و 167) والتي تبقى مهامها بادية في تسميتها؛
-الصحافة: سميت الصحافة بصاحبة الجلالة لأنها ارتقت بمهامها النبيلة والهادفة لسلطة رابعة أعطاها الدستور الضمانات الواسعة, ولم يقيدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية, فبواسطتها يمكن للمواطنين والمواطنات حق الحصول على المعلومات، الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام, بما فيها القضاء مع بعض التحفظ المشروع حماية للمتقاضين, بل أكثر من هذا فإن الصحافة في يومنا هذا, أضحت تلعب دورا جديدا في البحث عن الجرائم والاختلالات في التسيير وحالات الشطط والتعسف واستغلال النفود, وتوصل ذلك للمواطن وتنشره أمام الجهات المكلفة بمكافحته طبقا للقانون, وهذا ما يصطلح عليه اليوم بالصحافة الاستقصائية.
خلاصة
بالرجوع إلى فصول الدستور يتبين أن المغرب والحمد لله استطاع بواسطة تشريعاته المتسلسلة أن يرقى إلى مصاف الدول المتشبعة بالديمقراطية, وذلك بقضائه على بؤر الفساد والشطط في استعمال السلطة, أو استغلال النفوذ في غير ما جعل له, أو التأثير على تابع لتحقيق غرض شخصي, فجعل لكل مؤسسة رقيبا عليها, ورسخ بحق لمبادئ الديمقراطية الحقة, والحكامة الجيدة لما ربط المسؤولية بالمحاسبة, وحدد سلطة المنصب في مهام الوظيفة.
ومن خلال هذه المداخلة المقتضبة التي كانت بمثابة رؤوس أصابع ألقت الضوء على الضمانات الدستورية والفعلية , وتناولتها بالشرح المبسط والهادف, الذي يروم طمأنة كل مهتم بمسار السلطة القضائية في حلتها الجديدة, أن هذه الهيئة هي الآن في أسمى صور رقيها, وأكثر ضمانات استقلالها, وأحسن تمظهرات عطائها, مادام أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة, فلا يمكن لسلطة مادة اشتغالها القانون (أي إرادة الأمة ), أن تعبث بهذه المادة النفيسة, أو تصنع منها عينات لا تتناسب والخيار الديمقراطي الذي أخذه المغرب على نفسه, ملكا شعبا وحكومة, كما أن ثوابت هذه الأمة ومرجعيتها تبقى والحمد لله, بمثابة الكوابح والألجمة لكل عمل غير مشروع, أو مقاصد غير شريفة, خصوصا وأن القسم الذي يؤديه القاضي قبل الشروع في مهامه, لا يحيد قيد أنملة عن هذه المبادئ, حينما يقول: (أقسم بالله العظيم أن أقوم بمهامي بوفاء وإخلاص ......وأسلك في ذلك كله مسلك القاضي النزيه المخلص), كما أن أخلاقيات مهنة القضاء جاءت لتكرس الأمر نفسه, وعلى حد قول الإمام الشافعي رحمه الله,
دع الأيام تفعل ما تشاء :::::::وطب نفسا إذا حكم القضاء.
فأين وجه الاستغراب وبوادر التخوف, من اختصاصات انتقلت من مؤسسة وزير العدل إلى مؤسسة رئيس النيابة العامة, التي أسندت للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته هاته, ذلك لأنه أعلى منصب في جهاز النيابة العامة, يدافع عن تطبيق القانون ويراقب مدى احترامه بمحكمة النقض, ويعين شخصيا من طرف جلالة الملك بما في ذلك من ضمانة مرجعية, وهو عضو دائم بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية اعتبارا لموقعه السابق ذكره, كل هذه المهام والمسؤوليات لن تزيده إلا ثباتا واقتدارا لمزاولة هذه الوظيفة في إطار توكيل مولوي ورقابة دستورية وإخلاص وطني وضمير حي وقسم وظيفي. وممّا الخوف إذن, إذا كانت هذه المبادئ قد صوت عليها كل المغاربة بإجماع, وآمنوا بمصداقيتها وفعاليتها في بناء دولة الحق والقانون. فأمام وجود تعارض بين استقلال القضاء وتبعية قضاة النيابة العامة لرؤسائهم الأعليين, لا يمكن أن تكون هذه التبعية إلا لعضو من جسم القضاء نفسه, حفاظا على هذه الاستقلالية المقرونة بالتبعية في التأطير والتنظير لا في التحكم في المصير. ولماذا نتقوقع في تفكيرنا النقدي حول مسألتي الاعتقال والحريات الشخصية, وضمانات المحاكمة العادلة, ونحن نرى توجه الدولة بأسرها يسير من خلال هذا الميثاق, إلى إعادة النظر في نظام الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي وترشيدهما, وإعادة النظر في آليات اشتغال الضابطة القضائية, والبحث عن بدائل الاعتقال وإقرار سياسة المصالحة, وملاءمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية المناهضة لكل أشكال الظلم والتعسف, وإعداد سياسة جنائية تكافح الجريمة في إطار شرعية قانونية, وتشجيع الوسائل البديلة لحل المنازعات, ووضع مدونات سلوك لمختلف المهن القضائية, وإقرار الشفافية وتعبئة الرأي العام وتطهير المنظومة من كل الشوائب, فلا حيز هنا لتخوف مفترض من مستقبل مؤسسة قضائية محصنة بآليات إصلاح وشروط تقويم وأنظمة رقابة وأسس تخليق ومبادئ استقلال فردي ومؤسساتي.
والله ولي التوفيق
عبد العالي المصباحي
Comments