top of page
Rechercher

النيابة العامة ودورها في مكافحة الجرائم البيئية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المخلوقين وآله وصحبه أجمعين

أما بعد : يشرفني أن أبسط بين أيادي القراء الأعزاء، هذا العمل المتواضع، حول الجرائم البيئية والذي كان لي شرف إلقائه بمؤتمر الكوب 22 المنعقد بمراكش، في إطار مشاركة النيابة العامة بمحكمة النقض في هذا الملتقى العالمي حول البيئة. في محاولة مني لاحتواء هذا الموضوع وإيجاد الحلول الناجعة والتوصيات الهامة والتنظير الاستباقي لمستقبل مناخي أفضل.

إن التغيرات المناخية التي يعرفها العالم حاليا، من ذوبان للجليد القطبي وارتفاع ملحوظ لدرجات الحرارة وفيضانات وارتفاع لمستوى سطح البحر وغيرها من الظواهر الطبيعية الشاذة، التي تؤثر سلبا على المنظومة المناخية، أصبحت محط اهتمام كل سكان الأرض، لما تشعرهم به من تخوف مستمر ومتزايد حول مصير حياتهم ومستقبل العيش فوق هذا الكوكب. مما حدا بهم لدق ناقوس الخطر والتجند لمكافحة هذه الآفة الطبيعية بالعلم والعمل والتفكير لما قد يحتمل، فكانت الانطلاقة الفعلية لهذه المبادرات في السبعينات لترتفع وتيرتها ويزداد عدد المهتمين والمشاركين أواسط التسعينات فتستمر إلى يومنا هذا.عقدت خلالها عدد من المؤتمرات والمنتديات الدولية والقارية، التي أسست لمواثيق عالمية التزمت بها أغلبية الدول، كان آخرها ما خرجت به توصيات مؤتمر الأطراف في الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة، بشأن تغير المناخ "كوب 21" المنعقد بباريس. والذي أقر خلاله ممثلو 195 دولة عن اتفاق غير مسبوق للتصدي للاحتباس الحراري ومراجعة التعهدات الإلزامية كل خمس سنوات وزيادة المساعدة المالية لدول الجنوب ودعم البيئة والتنمية المستدامة.

ولم يتأخر المغرب كعادته في مواكبة الركب والسير بخطا حثيثة نحو تنزيل مضامين هذه الاتفاقيات على أرض الواقع، والدخول في مسلسل تشريعي بيئي في إطار استراتيجية وطنية استلهمت خطوطها العريضة من التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.

إن القانون كمادة شرّعت لحماية البيئة وتنظيم طرق تعامل الأفراد والمؤسسات مع الطبيعة، لن تفي بالغرض من سنّها إلا بتفعيلها من طرف الجميع، ابتداء بالمواطن وانتهاء بالسلطة القضائية التي تأول إليها كل المنازعات والخصومات والمتابعات الدائرة حول تعطيل أو خرق هذا القانون. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن إرادة المشرع لا تتحقق بسن المواد القانونية فقط ، ولكن تتحقق بتطبيق مقتضياتها، وأن قوة وفاعلية هذه النصوص القانونية هي في تفعيل مضامينها الوقائية والحمائية أكثر منه من تطبيق مقتضياتها الزجرية العقابية. فإن كان عقاب المخالف لقوانين حماية البيئة يحقق ردعا خاصا له وآخر عاما لمن يفكر في ارتكاب مثل أفعاله. فإن احترام البنود الوقائية لذات القانون يحقق حماية كونية للطبيعية ويحفز الفاعلين على تطوير أدائهم نحوها ويربي الناشئة على حياة في بيئة نظيفة، مما يعود على الوطن والمواطنين بالنفع العميم والعيش السليم. وهذا لأن الوقاية تبقى خيرا من العلاج.

وسيرا على هذا النهج فإن النيابة العامة بمحكمة النقض برآسة الوكيل العام للملك بها وكل أعضائها عبر التراب المغربي كان لها شرف احتضان المؤتمر الثالث لرؤساء النيابات العامة والنواب العموم والمدعون العامون ورؤساء هيئات التحقيق والإدعاء العام والوكلاء العامون بالدول العربية, وذلك ما بين 19/ 22 أكتوبر 2009 بهذه المدينة بالذات مراكش الحمراء. فكان من بين ما تمت مناقشته دور النيابة العامة بالمهن المتعلقة بمراقبة المخالفات البيئية (التلوث الإشعاعي والنووي). ليخلص المؤتمرون في ختام توصياتهم إلى ضرورة إنشاء موسوعة بيئية إلكترونية تضم تشريعات وطنية ودولية، ووضع القواعد اللازمة، بالاستعانة بكافة الأجهزة الأمنية لحماية البيئة، وإقرار استراتيجية التعاون بين النيابات العامة العربية في هذا الباب.

المشرع والجرائم البيئية

رغم أن مؤتمر الكوب 22 جاء ليناقش التأثيرات المناخية، فإنني سأستعمل في مداخلتي كلمة البيئة بدلا من المناخ. وذلك لأنها أكثر شمولية من كلمة مناخ بفتح الميم.

فالبيئة: هي الأشياء الّتي من حولنا، والّتي تؤثّر على بقاء الكائنات الحيّة على سطح الأرض، وتشمل: الماء، والهواء، والتّربة، والمعادن، والمناخ، والكائنات أنفسهم.

أما المناخ فهو معدل الطقس لمنطقة ما، على مدى فترة طويلة من الزمن، وقد تمتد لعدة سنوات، وعناصره هي: الحرارة الضغط الجوي الرياح الرطوبة والتكاثف. فلا يمكن أن نتحدث عن المناخ في معزل عن البيئة التي يدور في محيطها ويتفاعل معها ويؤثر ويتأثر بها. ولأن كل محاولة لإصلاح أو تقنين المجال الأول - الذي هو المناخ - تأتي في شكل شمولي يدخل فيه ومعه المجال الثاني – الذي هو البيئة-. فالمناخ جزء من البيئة يؤثر في باقي أجزائها كالماء والتربة ويتأثر بها كذلك.

لقد دأب المشرع المغربي عبر التاريخ على حماية بيئته من خلال سن عدد من القوانين والتشريعات الوطنية المنسجمة مع التوجه العالمي والاتفاقيات الدولية التي تخدم ذات القضية. فكان ظهير فاتح يوليوز 1914 المتمم بظهير 1919 أول تشريع يهتم بالماء ثم جاء ظهير 10 أكتوبر 1917 الخاص بالمجال الغابوي، وبعدهما القانون الجنائي وما عرفه من تعديلات. ليتجه المشرع المغربي بعد ذلك وتنزيلا للإستراتيجية المغربية الخاصة بإصلاح البيئة والتنمية المستدامة "كالمخطط الأخضر والمخطط الأزرق والمغرب الرقمي لتطوير الإدارة والبدائل الإيكولوجية وبرنامج الطاقات المتجددة"، لتشريع متخصص في كل مجال توّج باستصدار دستور 2011 الذي جعل الحقوق البيئية على قدم المساوات ما بين الرجل والمرأة، وجعل العيش في بيئة سليمة حقا لكل مواطن والتضامن في تكاليف الأعباء الناجمة عن الكوارث الطبيعية واجبا على كل مواطن. وأحدث المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، معتبرا أن التنمية المستدامة هي نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في آن واحد.

ومن هذا المنطلق ستحيلنا مقتضيات هذا الدستور على عدة تفرعات قانونية لتحليل موضوعنا وهي :

ارتقاء مفهوم العيش في بيئة سليمة إلى حق دستوري يحميه القانون؛

مكافحة جرائم البيئة لا يعني تغييب قرينة البراءة خلال البحث والمتابعة؛

بسط يد النيابة العامة واحتكارها للدعوى العمومية يزيد من رقابتها؛

السياسة الجنائية البيئية والنيابة العامة كآلية للتنزيل على أرض الواقع

النيابة العامة والإسهام في التنمية المستدامة؛

ارتقاء مفهوم العيش في بيئة سليمة إلى حق دستوري يحميه القانون

إن التأكيد على المناصفة في التمتع بالحقوق البيئية والعيش في بيئة سليمة ضمن مقتضيات الدستور بصفته أسمى تعبير عن إرادة الأمة، واكتساب كل مواطن لهذا الحق، يلزم الدولة بتوفيره وتأمينه وإيجاد الأدوات اللازمة والضرورية للحفاظ عليه وزجر كل من يعتدي عليه، فتنتقل بالتالي من زجر الأفعال إلى الوقاية من حدوثها، فيصبح ما هو حق للمواطن واجب على الدولة. وهذا ما نص عليه الفصل 31 من الدستور الذي ألزم الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، بتعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من عدد من الحقوق ومنها :- الحق في الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة ثم التنمية المستدامة.

كما ذهب المشرع المغربي في القانون رقم 61- 03- 1 الصادر بتاريخ 12 مايو 2003 والمتعلق "بمكافحة تلوث الهواء"، إلى تشديد المراقبة للتثبت من الجرائم المرتكبة في هذا الباب، بتوسيع دائرة الأشخاص المؤهلين لضبط المخالفات، من ضباط شرطة قضائية وموظفين وأعوان مأمورين ومحلفين وكذا هيئات مراقبة وفرق متعددة التخصصات حسب المادتين 9 و 10. مع الإسراع بإحالة هذه المحاضر على المحاكم المختصة في أجل أقصاه عشرة أيام. وعاقب في المادة 16 مرتكب التلوث عن عدم إبلاغ السلطات عن فعله هذا. وهذا خلافا للقاعدة العامة حيث لا يعاقب المجرم عن فعله إلا ببلوغ الأمر للنيابة العامة التي تحرك المتابعة. وفي القانون الجنائي بالباب الأول مكرر المتعلق بالإرهاب اعتبر في الفصل 3-218، جريمة إرهابية إدخال أو وضع مادة تعرض صحة الإنسان أو الحيوان أو المجال البيئي للخطر، في الهواء أو في الأرض أو في الماء، بما في ذلك المياه الإقليمية.

مكافحة جرائم البيئة لا يعني تغييب قرينة البراءة خلال البحث والمتابعة

رغم مجهودات المغرب الرامية إلى مكافحة كل أشكال الجرائم البيئية وانخراطه اللا مشروط في المصادقة على كل الاتفاقيات الدولية الدائرة في نطاقها، والعمل بالتوصيات التي تخرج بها مؤتمرات الأمم المتحدة في مجال المناخ ابتداء من الكوب واحد، ومحاولة مطابقة قوانينه للتشريع الدولي، إلا أن هذا لن ولم يمس أبدا بقرينة البراءة المنصوص عليها بالمادة 1 من ق م ج: كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية. يفسر الشك لفائدة المتهم. والتي تبقى شعارا للنيابة العامة ومن هم تحث إمرتها ولقضاء التحقيق والحكم، أثناء البحث عن الجرائم ومتابعة مرتكبيها وإصدار الأحكام في حق من تبث تورطه. وهذا ما ذهب إليه المشرع المغربي حينما اعتمد مبدأ ملاءمة المتابعة بدلا من مشروعية المتابعة، حتى لا تكون النيابة العامة ذلك الجهاز الآلي الذي يقدم للقضاء قصد المحاكمة كل ما يحال عليه من محاضر، بل أعطاه صلاحية تقييم الأدلة وترجيح الحجج والتأكد من توافر الطابع الجنحي أو الجنائي في الفعل للقول بتحريك المتابعة أو حفظ النازلة لسبب من الأسباب القانونية أو حتى الاجتماعية والاقتصادية. فيكون قرار النيابة العامة بعدم المتابعة بمثابة أول حكم بالبراءة في حق المشتبه به. ناهيك عن ضمانات المحاكمة العادلة التي جاء بها قانون المسطرة الجنائية ومن أهمها :

- اعتبار الاعتقال الاحتياطي إجراء استثنائيا؛

- الحق في العلم بكل وسائل الإثبات؛

- الحق في الاستفادة من مساعدة قانونية؛

- الحق في الاتصال بالمحامي وإشعار عائلة المحروس؛

- حق المحامي في تقديم وثائق وملاحظات أمام ضابط الشرطة القضائية؛

- مراقبة النيابة العامة لظروف الوضع تحث الحراسة النظرية؛

- إجراء صلح متى أمكن ذلك قانونا؛

- البث في القضية داخل أجل معقول؛

- إمكانية إيقاف سير الدعوى العمومية؛

وبالإضافة إلى هذه الضمانات المنصوص عليها في قانون الإجراءات، فإن المشرع لم يغفل مبدأ قرينة البراءة حتى في قانون الموضوع، فمثلا في قانون تدبير النفايات والتخلص منها الصادر بتاريخ 22 نوفمبر 2006، أعطى في مادته الثامنة فرصة للمخالف لاسترداد النفايات- التي أودعها في أماكن غير مخصصة لذلك- والتخلص منها بطريقة قانونية، كما كلف السلطات بالتخلص من النفايات التي لم يعرف أصحابها، وفي هذا دلالة على انعدام الاتهامات المجانية أو التي يشوبها شك، تطبيقا لقاعدة الشك يفسر لفائدة المتهم.

المادة 8: يلزم كل شخص أودع نفايات في غير الأماكن المعدة لها باستردادها لأجل التخلص منها طبقا لأحكام هذا القانون والنصوص المتخذة لتطبيقه. في حالة التخلي عن نفايات يمكن لرئيس الجماعة المعنية، بالنسبة للنفايات المنزلية والنفايات المماثلة لها ، أو لوالي الجهة أو لعامل العمالة أو الإقليم بالنسبة لباقي أصناف النفايات بعد توجيه إعذار إلى المخالف، أن يأمر بالتخلص منها بشكل فوري وعلى نفقته . في حالة عدم التعرف على هوية المخالف تأمر السلطة المعنية بالتخلص من هذه النفايات .

بسط يد النيابة العامة واحتكارها للدعوى العمومية يزيد من رقابتها

النيابة العامة جهاز قضائي يحرك الدعوى العمومية ويمارسها باسم المجتمع ونيابة عنه، للدفاع عن الحق العام وعن حق الدولة في إنزال العقاب، لهذا نجد المشرع قد أعطاها حق احتكار هذا الاختصاص واستثناء مكّن بعض الإدارات والمشتكي في نطاق ضيق لممارسة هذا الحق وإن كانت النيابة العامة هي التي تتابع باقي الإجراءات في جميع الأحوال، وهذا ما يجعل لها الولاية العامة في جميع القضايا فتكون طرفا أصليا فيها أو كما يحلو للبعض بتسميتها بالطرف الإيجابي في الدعوى العمومية.

وحسنا فعل المشرع المغربي حينما ترك للنيابة العامة الحق في النظر في كل القضايا الجنائية دونما إحداث نيّابات عامة متخصصة في كل مادة كما هو عليه الشأن في بعض الأنظمة القضائية، حيث نجد مثلا النيابة العامة الخاصة بالمخدرات وأخرى بالبيئة وثالثة خاصة بالأسرة وهكذا دواليك، لأن من ميزات نظامنا هذا أن تكون النيابة العامة مطلعة أفقيا بكل الجرائم الواقعة بدائرة نفوذها، وتُطلع عموديا رؤساءها الأعليين بما يجري وما اتخذته من إجراءات في كل الجرائم، فتتجمع المعلومات على هذين المستويين ويتم توحيد الاجتهاد القضائي وتوحيد عمل النيابات العامة في إطار القضاء ومكافحة كل أشكال الجريمة. كما أن القضية المتشعبة الجرائم أو الأطراف لا يتم إحالة كل جريمة على النيابة العامة المختصة بل تتكلف ذات النيابة بالبحث في كل الأفعال مما يعطي نتيجة أفضل في إطار البحث والتقصي وحتى العقاب والردع بنوعيه. بل أكثر من هذا فقد أعطى المشرع المغربي لممثل النيابة العامة في قانون المسطرة الجنائية الحق في التنقل إلى دائرة قضائية غير التي يشتغل بها في إطار التثبت من الجرائم، وأعطاه كذلك الحق في انتداب أحد ضباط الشرطة القضائية للقيام بنفس الإجراء، وله كذلك تكليف الفرقة الوطنية للشرطة القضائية التي لها الاختصاص الوطني.

وإذا كانت النيابة العامة بهذا النظام هي جزء لا يتجزأ ولها الولاية في كل الاختصاصات، فإنه يوجد تحث إمرتها كل فرق الضابطة القضائية ذات الاختصاص النوعي، حيث نجد أن هناك شرطة خاصة بالبيئة وشرطة للمياه وأخرى للتعمير وغيرها من ضباط وأعوان وموظفين، وإن كانوا يختصون بضبط نوع محدد من المخالفات، إلا أنهم يشتغلون بتعاون مع النيابة العامة المتواجدين بدائرة نفوذها، أو تلك التي وقعت المخالفة بدائرتها.

السياسة الجنائية البيئية والنيابة العامة كآلية للتنزيل على أرض الواقع

تحاول كل دولة عبر مؤسساتها وضع سياسة جنائية تسطر من خلالها برنامجا منسجما مع أهدافها, للقضاء على ظاهرة الإجرام بنوعيه أي الجريمة والانحراف. وهي في هذا تشرك كل السلطات والمؤسسات الدستورية للإسهام في إنجاحها، وذلك بتحويل هذا المخطط إلى عمل ملموس. ولعل تشكيلة المجلس الأعلى للأمن المنصوص عليه في الفصل 54 من الدستور لخير دليل على هذه الشراكة بين جميع مؤسسات الدولة، في إطار التشاور بشأن السياسة الأمنية الداخلية والخارجية للبلاد.

الفصل 54 : يُحدث مجلس أعلى للأمن، بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات، والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة. يرأس الملك هذا المجلس، وله أن يفوض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة اجتماع لهذا المجلس، على أساس جدول أعمال محدد. يضم المجلس الأعلى للأمن في تركيبته، علاوة على رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الوزراء المكلفين بالداخلية، والخارجية، والعدل، وإدارة الدفاع الوطني، وكذا المسؤولين عن الإدارات الأمنية، وضباط سامين بالقوات المسلحة الملكية، وكل شخصية أخرى يُعتبر حضورها مفيدا لأشغال المجلس. ويحدد نظام داخلي للمجلس قواعد تنظيمه وتسييره.

فكيف تساهم النيابة العامة في تنزيل هذه السياسة الجنائية على أرض الواقع ؟

بالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية نجد كلمة السياسة الجنائية ذكرت مرة واحدة في المادة 51 التي تنص على ما يلي :

"يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية، ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها، وله أن يبلغ إلى الوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي، وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك، أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية."

ويفهم هنا أن ما يتم إقراره في المجالس الحكومية من سياسات عمومية طبقا للفصل 92 من الدستور، يقوم كل وزير بتنفيذه في القطاع المكلف به، طبقا للفصل 93 من الدستور، عن طريق توجيه دوريات ومناشير. وقد بلغت المناشير الموجهة من وزير العدل للوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك سنة 2013 إلى 17 كتاب منها واحد يتعلق بالمخالفات المرتبطة بتوزيع غاز البوطان، المنصوص عليها في ظهير 22 فبراير 1973 المتعلق باستيراد مواد الهيدروكاربور وتصديرها وتكرارها وتعبئتها.

وهذا لا يعني تدخل وزير العدل في الشأن القضائي، لأن القضاء يبقى مستقلا، وإنما تبليغ ما استقرت عليه الحكومة من سياسة جنائية، للوكلاء العامين للملك هو في حد ذاته تنفيذ لها. وإحاطة للسلطة القضائية في شخص النيابة العامة بالأبعاد والمؤشرات التي تراها الحكومة مثلا في مسألة ارتفاع الجريمة في منطقة معيّنة، أو تصورها لمكافحة ظاهرة إجرامية أو انحراف سلوكي. فيقوم الوكلاء العامون للملك بالتعامل مع هذا المعطى بأسلوب يحقق الغاية المنشودة من هذه الاستراتيجية.

فمثلا كلنا يعلم سلطة الوكلاء العامون للملك في مسألة التجنيح، وهي محاولة لجعل العقوبة متكافئة مع قلة خطورة الفعل أو بساطته، وذلك حتى لا يدان شخص من أجل فعل وإن كان في تكييفه هو جناية تستحق عقوبة سجنية، إلا أن الضرر الحاصل من جرائه يبقى ضئيلا ولا يرقى لعقوبة غليظة قد تدمر حياته للأبد.

ولأن السياسة الجنائية هي مجموعة منظمة من المبادئ التي يتحتم على الدولة والمجتمع اعتمادها لتنظيم عملية محاربة الجريمة، انتقلت هذه السياسة من سلسلة تشريع جنائي يحارب الجريمة، إلى علم جنائي يبحث في الظاهرة الإجرامية وسبب انتشارها، فكان للنيابة العامة دورا أساسيا في تطويرها من خلال اجتهاداتها في مجال التكييف وإلباس الواقعة للقالب القانوني المواتي لها.

فمثلا قانون المسطرة الجنائية الحالي وما جاء به من إجراءات جديدة كاقتراح الصلح وإعادة الحيازة لصاحبها وإيقاف سير الدعوى العمومية والحفظ اعتبارا للروابط العائلية وغيرها من القرارات التي تصدر عن النيابة العامة، كانت نتيجة لعمل هذه الأخيرة والذي اعتمدت فيه على تطويع الفصول القانونية والترجيح ما بين حق المجتمع في إنزال العقاب والجدوى من إقامة الدعوى العمومية وممارستها وهذا لعقلنة المتابعات وترشيد الاعتقال وتضييق مفهوم "النيابة العامة إذا شكت تابعت". كما أنه حاليا وأمام فراغ تشريعي لمكافحة ظاهرة تدخين النرجيلة أو ما يعرف بالشيشة وما تحدثه من أضرار لجأت عدد من النيابات العامة لتطبيق مقتضيات قانون 03- 13 المتعلق بمكافحة تلوث الهواء على المحلات التي تقدم هذا المنتوج.

فالنيابة العامة بهذه الاجتهادات والمبادرات الهادفة، لا تكون آلية لتنزيل مضامين السياسة الجنائية فقط، وإنما مشتلا لها ومصدرا لإلهامها ومادة خاما لهذا المنتوج. وهذا ما حدا بكل رجالات القانون والمجتمع المدني وهم يتداولون حول ميثاق إصلاح منظومة العدالة أن يردوا الأمور إلى مسارها الطبيعي، وذلك بإعطاء رئاسة النيابة العامة تأكيدا للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، تفعيلا للمادة 16 من التنظيم القضائي والتي كانت تقرأ بشكل مخالف قبل هذا.

- الفصل 92 من الدستور : يتداول مجلس الحكومة تحث رئاسة رئيس الحكومة, في القضايا والنصوص التالية : السياسات العامة للدولة.....السياسات العمومية.....

- الفصل 93 من الدستور: الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسات الحكومية كل في القطاع المكلف به ....

- المادة الأولى من المرسوم رقم 2.12.17الصادر في 2 ربيع الأول 1433 (26 يناير 2012) المتعلق باختصاصات وزير العدل والحريات ، يمارس وزير العدل والحريات الاختصاصات المسندة إلى السلطة الحكومية المكلفة بالعدل بموجب النصوص الجاري بها العمل... وعلاوة على ذلك ، يساهم في إعداد السياسة الحكومية في مجال حماية الحريات وحقوق الإنسان والنهوض بها في مجال اختصاصه ، والعمل على تتبعها وتنفيذها ، بتنسيق مع القطاعات والهيئات المعنية ، الجريدة الرسمية عدد 6018 بتاريخ 9 ربيع الأول 1433 (2 فبراير 2012)، ص 486.

النيابة العامة والإسهام في التنمية المستدامة

إذا كانت التنمية المستدامة هي تطوير وسائل الإنتاج دونما استنزاف للموارد الطبيعية، ضمانا لقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجياتها. فإن التنمية المستدامة بمفهوم الدستور المغربي، هي استراتيجية وطنية تهتم بكل المجالات الحية، إذ خصص لها الدستور مجلسا اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا "الفصل 151"، ترجع إليه الحكومة والبرلمان لاستشارته في هذه المجالات وللإدلاء برأيه في التوجهات العامة والتنمية المستدامة.

وهذا يعني أن كل المؤسسات الدستورية هي معنية بهذا المخطط بما فيها النيابة العامة، هذه الأخيرة التي استطاعت بدورها تنزيل آليات عملها ونصوص القانون تنزيلا يخدم المصلحة العليا للبلد ويساهم في هذه التنمية المستدامة عن طريق حماية الاقتصاد والمجتمع من خلال استراتيجية قانونية أسندها لها المشرع تتوخى مكافحة الجريمة وتقويم الانحراف، وذلك من خلال :

توسيع دائرة التشكي

إتباع مبدأ ملاءمة المتابعة

جعل الدعوى العمومية ملكا للنيابة العامة

إشراك المجتمع المدني في التحري والكشف عن الجريمة

تكريس مبادئ دستورية لحماية المواطن

إعادة إدماج الجانح في المجتمع

اعتماد تدابير للأحداث بديلة عن العقاب

اعتماد الصلح والتقادم وإيقاف سير الدعوى العمومية والتنازل

تشريع نصوص خاصة ومشددة للجرائم الخطيرة

الانضمام دوليا لمنظمات مكافحة الجريمة العابرة للحدود.

والسلام عليكم ورحمة الله

عبد العالي المصباحي




2 vues0 commentaire

Posts récents

Voir tout

دور محكمة النقض

تتربع محكمة النقض على قمة هرم التنظيم القضائي المغربي، و يشمل نفوذها جميع التراب الوطني. أحدثت محكمة النقض، غداة الاستقلال و كانت تسمى آنذاك بالمجلس الأعلى، إلى أن تم تغيير هذه التسمية بمقتضى الظهير ا

مقترح مشروع النظام الأساسي للنيابة العامة

​ الفصل الأول : يتألف السلك القضائي للمملكة من قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة بكل من محكمة النقض والمحاكم الاستئنافية والابتدائية والماليةوالعسكرية, ويشمل أيضا القضاة الممارسين بوزارةالعدل والقضاة

bottom of page